الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }؛ قرأ أبو عمرٍو: (يَبْغُونَ) بالياء، و (تُرْجَعُونَ) بالتاء، قالَ: (لأنَّ الثَّانِي أعَمُّ، وَالأوَّلُ خَاصٌّ، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى). وقرأ الحسنُ ويعقوبُ وسلام وحَفْصُ: (يَبْغُونَ) بالياء، و (يُرْجَعُونَ) بالياء أيضاً. وقرأ الباقونَ بالتاءِ فيهما على الخطاب.

ومعنى الآيةِ: أبَعْدَ هذه الوثائقِ الجارية بينَهم وبينَ اللهِ في أمرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يطلبُون دِيناً سوى ما عَهِدَهُ اللهُ إليهم. قال الكلبيُّ: (وَذلِكَ أنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حِيْنَ اخْتَلَفُواْ فِي دِيْنِ إبْرَاهِيْمَ عَلَيْهِ؛ كُلُّ فِرْقَةٍ قَدْ زَعَمَتْ أنَّهَا أوْلَى بدِيْنِهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " كِلاَ الْفَرِيْقَيْنِ بَرِيْءٌ مِنْ دِيْنِ إبْرَاهِيْمَ " فَغَضِبُواْ وَقَالُواْ: وَاللهِ مَا نَرْضَى بقَضَائِكَ وَلاَ نَأْخُذُ بدِيْنِكَ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ).

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } أي له أخلصَ وَخَضَعَ. قال الكلبيُّ: (أمَّا أهْلُ السَّمَاوَاتِ وَمَنْ وُلِدَ فِي الإسْلاَمِ مِنْ أهْلِ الأَرْضِ أسْلَمُواْ طَائِعِيْنَ، وَمَنْ أبَى قُوتِلَ حَتَّى يَدْخُلَ فِي الإسْلاَمِ كَرْهاً؛ يُجَاءُ بهِمْ أسَارَى فِي السَّلاَسِلِ وَيُكْرَهُونَ عَلَى الإسْلاَمِ). وَفِي الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: " عَجِبَ رَبُّكُمْ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إلَى الْجَنَّةِ بالسَّلاَسِلِ "

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أي إلى جَزَائِهِ تُرْجَعُونَ في الآخرةِ، فَبَادِرُوا إلى دِينه ولا تطلبُوا غيرَ ذلك، وقيل معنى: { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي أقَرُّواْ لَهُ بالألُوهيَّة كما قالَ اللهُ تعالى:وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [الزخرف: 87]. وقال الزجَّاج: (مَعْنَاهُ: أنَّ كُلَّهُمْ خَضَعُواْ للهِ مِنْ جِهَةِ مَا فَطَرَهُمُ اللهُ عَلَيْهِ). قال الضحَّاك: (هَذا حِيْنَ أخِذ مِنْهُ الْمِيثَاقُ وَأقَرَّ بهِ).

وقال الكلبيُّ: (مَعْنَاهُ: الَّذِي أسْلَمَ طَوْعاً أيِ الَّذِي وُلِدَ فِي الإسْلاَمِ، وَبالَذِي أسْلَمَ كَرْهاً يَعْنِي الَّّذِي أجْبرَ عَلَى الإسْلاَمِ، فَيُؤْتَى بهِمْ فِي السَّلاَسِلِ فَيُكْرَهُونَ عَلَى الإسْلاَمِ). قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " كُلُّ الْمَلاَئِكَةِ أطَاعُواْ فِي السَّمَاءِ؛ وَالأَنْصَارُ فِي الأَرْضِ " وقال صلى الله عليه وسلم: " وَلاَ تَسُبُّواْ أصْحَابي فَإنَّهُمْ أسْلَمُواْ مِنْ خَوْفِ اللهِ، وَأَسْلَمَ النَّاسُ مِنْ خَوْفِ سُيُوفِهِمْ "

وقال الحسنُ: (الطَّوْعُ: لأَهْلِ السَّمَاوَاتِ خَاصَّةً، وَأَهْلُ الأرْضِ مِنْهُمْ مَنْ أسْلَمَ طَوْعاً؛ وَمِنْهُمْ مَنْ أسْلَمَ كَرْهاً).

وقرأ الأعمش: (كُرْهاً) بضمِّ الكافِ. وأما انتصابُ (طَوْعاً) و (كَرْهاً) فلأنَّهما مصدران وُضِعَا موضعَ الحالِ كما يقالُ: جِئْتُ رَكْضاً وَعَدْواً؛ أي راكضاً وماشِياً بسرعةٍ؛ كأنَّهُ قَالَ: ولهُ أسْلَمَ مَن في السماواتِ والأرض طائِعِيْنَ وَكَارهِيْنَ. وعن ابنِِ عبَّاس أنهُ قال: (إذا اسْتضَعَنَتْ دَابَّةُ أحَدِكُمْ أوْ كَانَتْ شَمُوساً فَلْيَقْرَأ فِي أذُنِهَا هَذِهِ الآيَةَ: { أفَغَيْرَ دِيْنِ اللهِ يَبْغُونَ } إلَى آخِرِهَا).