الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ }؛ وذلكَ أنَّهُ لَمَّا كَثُرَتْ دعوةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إيَّاهم إلى الإسلامِ وقامَت عليهم الْحُجَجُ؛ قالوا: إنَّ هذا الرجلَ يريدُ أن نَتَّبعَهُ ونَعْبُدَهُ كما كان عيسى مِن قومه حتى عَبَدُوهُ، فَكَذا كَلَّمَ الله عَزَّ وَجَلَّ بهذه الآيةِ، ومعناها: ما كان بَشَرٌ من الأنبياءِ مثلَ عيسى وعُزَيْرٍ وغيرِهم أن يعطيَهُ اللهُ الكتابَ وعِلْمَ الحلالِ والحرامِ والنبوَّة؛ { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ } أي لا يَجْمَعُ لأحدٍ النبوَّة والقولَ للناسِ: كونوا عِباداً لِي، وليس هذا على وجهِ النَّهي، ولكنه على وجه التَّنْزِيْهِ للهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ لأنه لا يَخْتَارُ نبيّاً يقولُ مثلَ هذا القول للناسِ. ويجوزُ أن يكونَ هذا على وجهِ تَعْظِيْمِ الأنبياءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ.

وقال الضحَّاك ومقاتلُ: (مَعْنَاهُ: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يَعْنِي عَيْسَى عليه السلام { أنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ } يَعْنِي الإنْجِيْلَ؛ نَزَلَتْ فِي نَصَارَى نَجْرَانَ). وقال ابنُ عبَّاس وعطاءُُ: ( { مَا كَانَ لِبَشَرٍ } يَعْنِي مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم { أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَٰبَ } يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَذلِكَ أنَّ أبَا رَافِعٍ الْقُرَظِيِّ مِنَ الْيَهُودِ، وَالرَّيِّسَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ، قَالُواْ: يَا مُحَمَّدُ؛ نُرِيْدُ أنْ نُصَيِّرَكَ وَنَتَّخِذكَ رَبّاً؟! فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " مَعَاذ اللهِ أنْ يُعْبَدَ غَيْرُ اللهِ أوْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، مَا بذلِكَ بَعَثَنِي اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلاَ بذلِكَ أمَرَنِي " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). والبَشَرُ جمعُ بَنِي آدَمَ لا واحدَ لهُ من لفظهِ، كالْقَوْمِ وَالْجَيْشِ، ويوضَعُ موضِعَ الواحدِ والجمعِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى { وَٱلْحُكْمَ } يعني الفَهْمَ والعِلْمَ، وقيل: الأحكامَ. قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } ، أي ولكن يقولُ: { كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ } أي عُلَمَاءَ عَامِلِيْنَ، وقيل: فُقَهَاءَ مُعَلِّمِيْنَ. قفال مُرَّةُ بن شِرَحْبيْلَ: (كَانَ عَلْقَمَةُ مِنَ الرَّبَّانِيِّيْنَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْقُرْآنَ). وعن سعيدِ بن جُبير: (مَعْنَاهُ: حُكَمَاءَ أتْقِيَاءَ). وقيل: متعبدين مخلصِين. وقيل: علماءَ نُصَحَاءَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ في خلقِه.

وقيل: (الرَّبَّانِيُّ: هُوَ الْعَالِمُ بالْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ وَالأَمْرِ وَالنَّهْيِ؛ وَالْعَارفُ بأَنْبَاءِ الأُمَّةِ وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ). وقال عليٌُّ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: (هُوَ الَّذِي يَرُبُّ عِلْمَهُ بعَمَلِهِ) أي يُصْلِحُ علمَهُ بعملِه وعملُهُ بعلمِهِ. وقال محمَّد بنُ الحنفية يوم ماتَ ابنُ عبَّاس: (مَاتَ رَبَّانِيُّ هَذِهِ الأُمَّةِ).

قَوْلُهُ تَعَالَى: { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ } معناهُ: بما أنتُم تُعَلِّمُونَ كقولهِ:وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } [مريم: 5] أي وامرأتِي عَاقرٌ. وقوله:مَن كَانَ فِي ٱلْمَهْدِ } [مريم: 29] أي مَن هو في الْمَهْدِ صبيّاً. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ } ، قرأ السَّلمي والنخعيُّ وابن جُبير والضحَّاك وابن عامرٍ والكوفيُّون: (بمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ) بالتشديد من التَّعْلِيْمِ، وقرأ الباقون بالتخفيف: مِنَ الْعِلْمِ.

السابقالتالي
2