الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِيَذَرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ٱلْغَيْبِ وَلَكِنَّ ٱللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ }؛ اختلفُوا في تَأْويْلِهَا؛ قال الكلبيُّ: (قَالَتْ قُرَيْشُ: يَا مُحَمَّدُ؛ تَزْعُمُ أنَّ مَنْ خَالَفَكَ فَهُوَ فِي النَّار؛ وَاللهُ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ، وَمَنْ اتَّبَعَكَ عَلَى دِيْنِكَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ؛ وَاللهُ عَنْهُ رَاضٍ، فَخَبرْنَا بمَنْ يُؤْمِنُ بكَ وَمَنْ لاَ يُؤْمِنُ بكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هذه الآية). ومعناهَا: لَمْ يَكُنِ اللهُ ليترُكَ مَن كان في علمهِ السَّابق أنهُ يُؤْمِنُ، عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ حتى يُمَيِّزَ الكافرَ والمنافقَ من المؤمنِ المخلص { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ } يا أهلَ مَكَّةَ على مَن يصيرُ منكم مؤمناً قبلَ أن يؤمنَ، ولكنَّ اللهَ يصطفي بالنبوَّةِ والرسالةِ من يشاءُ فيوحِي إليه بما يشاءُ؛ لأنَّ الغيبَ لا يطَّلِعُ عليه إلاَّ الرُّسُلُ بوحيٍ من اللهِ ليقيموُا البرهانَ على أنَّ ما أتَوا بهِ من عند اللهِ؛ { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ }؛ أي صَدِّقُوا، { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ }؛ الشِّرْكَ والمعصيةَ؛ { فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ }؛ فِي الْجَنَّةِ.

وقال بعضُهم: الخطابُ للكافرِين والمنافقين، معنى الآيةِ: { مَا كَانَ اللهُ لِيَذرَ الْمُؤْمِنِيْنَ عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ } يا معشرَ الكفَّار والمنافقين من الكفرِ والنِّفاق { حَتَّى يَمِيزَ الْخَبيثَ مِنَ الطَّيِّب }. وقيل: الخطابُ للمؤمنينَ؛ أي ما كانَ اللهُ لِيَذرَكُمْ يَا معشرَ المؤمنين على ما أنتُم عليهِ من الْتِبَاسِ المؤمنِ بالمنافقِ حَتَّى يَمِيْزَ الْخَبيْثَ.

قرأ الحسنُ وقتادة والكوفيون إلاّ عاصِماً: (يُمَيِّزَ) بضمِّ الياء والتشديد، وكذلكَ في الأنفالِ. والباقون بالتخفيفِ وفتحِ الياء من الْمَيْزِ وهو الفرقُ، ويسمَّى العاقلُ مُمَيِّزاً لأنه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطلِ، معناهُ: حتَّى تُمَيِّزَ المنافقَ من المخلصِ، فَيُمَيِّزُ اللهُ المؤمنين يومَ أحدٍ من المنافقين حينَ أظهرُوا النفاقَ وَتَخَلَّفُواْ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وقال بعضُهم: معنى الآية: { مَا كَانَ اللهُ لِيَذرَ الْمُؤْمِنِيْنَ عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ } مِنَ الإقرار حتى يَفْرِضَ عليهِمُ الجهادَ والفرائضَ لِيَميْزَ بها من يَثْبُتُ على إيْمانهِ مِمَّنْ ينقلبُ على عَقِبَيْهِ، وما كانَ لِيُطْلِعَكُمْ على الغيب؛ لأنه لا يعلمهُ إلاَّ اللهُ، ولكنَّ اللهَ يَخْتَارُ من رُسُلِهِ من يشاءُ، فَيُطْلِعَهُ على بعضِ عِلْمِ الغيب.

وروي: أنَّ الحجَّاجَ بنَ يوسفَ كان عندَهُ مُنَجِّمٌ، فأخذ الحجاجُ حُصَيَّاتٍ بيدهِ قد عَرَفَ عددَها، فقالَ لِلْمُنَجِّمِ: كَمْ فِي يَدِي؟ فَحَسَبَ المنجِّمُ فأصابَ، ثم اغْتَفَلَهُ الحجاجُ فأخذ حُصَيَّاتٍ لَمْ يَعُدَّهَا، قَالَ للمنجِّم: كَمْ في يَدِي؟ فَحَسَبَ المنجِّمُ فَأَخْطَأَ، ثم حَسَبَ فأخطأَ، فقال: أيُّها الأميرُ: أظُنَّكَ لا تعرفُ عددَهُ، قال: لاَ، فقال: إنَّ ذلكَ الأوَّل أحصيتَ عددَهُ فخرجَ عن حَدِّ الغيب، فأصَبْتَ في حِسَابِهِ. وهذا لم تَعْرِفْ عددَهُ فصارَ غَيْباً، والغيبُ لا يعلمهُ إلاّ اللهُ.