الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ }؛ راجعٌ إلى قولهِوَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } [آل عمران: 152] لأنَّ عفوَه عنهم لا بُدَّ أن يتعلَّقَ بذنبٍ منهم؛ وذلك الذنبُ ما بيَّنهُ بقولهِ { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ } أي ولقد عَفَا عنكُم { إِذْ تُصْعِدُونَ } أي إذ تُبْعَدُونَ هَرَباً في الأرضِ بالْهَزِيْمَةِ. والإصْعَادُ: السَّيْرُ فِي مُسْتَوَى الأَرْضِ.

وقرأ الحسنُ وقتادة: (تَصْعَدُونَ) بفتحِ التاء والعين. قال أبو حاتِمٍ: يقالُ: أصْعَدْتُ؛ إذا مَضَيْتُ حِيَالَ وَجْهِكَ، وَصَعَدْتُ؛ إذا رَقِيْتُ عَلَى جَبَلٍ أوْ غَيْرِهِ. والإصْعَادُ: السَّيْرُ فِي مُسْتَوَى الأَرْضِ وَبُطُونِ الأوديةِ والشِّعاب. والصُّعُودُ: الارتفاعُ على الجبلِ والسُّطوح والسَّلالم والمدرَجِ، وكِلاَ القراءتين صوابٌ. وقد كان يومئذٍ منهم صَاعِدٌ مُصْعِدٌ؛ أي صاعدٌ إلى الجبلِ، ومُصْعِدٌ هَاربٌ على وجههِ، وَالرَّسُولُ يَدْعُوهُمْ: " إلَيَّ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِيْنَ؛ وَيَا أصْحَابَ الْبَقَرَةِ وَآلَ عِمْرَانَ أَنَا رَسُولُ اللهِ " فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ مِنْهُمْ أحَدٌ حَتَّى أتَوا عَلَى الْجَبَلِ. ويحتملُ أنَّهم ذهبُوا في بَطْنِ الوادِي أوَّلاً؛ ثُمَّ صَعَدُوا الجبلَ، فَلا تَنَافِيَ حينئذٍ بين القرائَتين.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ } أي لا تُعَرِّجُونَ ولا تُقِيْمُونَ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فلا يقيمُ بعضُكم على بعضٍ ولا يَلْتَفِتُ بعضكم إلى بعضٍ. وقرأ الحسن: (وَلاَ تَلُونَ) بواوٍ واحدة، كما يقالُ: اسْتَحَيْتُ وَاسْتَحْيَيْتُ. قال الكلبيُّ: (يَعْنِي بقَوْلِهِ (عَلَى أحَدٍ) النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم). قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ } أي مِن خلفِكم، وذلكَ أنَّهُ لَمَّا انْهَزَمَ الْْمُسْلِمُونَ لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلاَّ ثَلاثَة عَشَرَ رَجُلاً، خَمْسَةٌ مِنَ الْمُهَاجِرِيْنَ: أبُو بَكْرٍِ؛ وَعَلِيٌّ؛ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ؛ وَطَلْحَةُ بْنُ عَبْدِاللهِ؛ وَسَعْدٌ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الأنْصَارِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ } أي جزاكم غَمّاً مُتَّصلاً بغمٍّ؛ فَأحدُ الغمَّين الْهَزِيْمَةُ وَقَتْلُ أصحابهم، والثَّانِي: إشْرَافُ خالدٍ في فَمِ الشِّعْب مع خَيْلِ المشركينَ. وقيل: الغمُّ الأوَّلُ هو القتلُ والجراحُ، والثانِي: سَمَاعُهم بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قُتِلَ؛ فأساءَهم الغمُّ الأوَّل بقولهِ { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } أي إذْ أنالَكُم غمَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم نِلْتُمْ بهِ كل غمٍّ من فَوْتِ الغنيمةِ والْهَزِيْمَةِ. وقيل: معناهُ: مَن تَرَادَفَتْ عليه الغمُومُ واعتادَ في ذلكَ يقلُّ حُزْنُهُ وتأسُّفه على ما يفوتُه من الدُّنيا.

وقال الزجَّاج: (مَعْنَى قَوْلِهِ { غَمّاًً بِغَمٍّ } أي جَزَاكُمْ غَمّاً بمَا غَمَمْتُمْ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بمُفارَقَةِ الْمَكَانِ الَذِي أمَرَكُمْ بحفْظِهِ). وقال الحسنُ: (مَعْنَى هَذا الغَمِّ بغَمِّ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍٍ). ويقالُُ: { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } متَّصِلٌ بقولهِوَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } [آل عمران: 152]، وقيلَ: معناهُ: { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ } بمعنى الغنيمةِ والفَتحِ. { لاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ }: (مَا) في موضعِ خَفْضٍ؛ أي وَلاَ مَا أصَابَكُمْ مِن القتلِ والْهَزِيْمَةِ. وقال بعضُهم: (لاَ) زائدةٌ؛ معناهُ: لِكَي تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَمَا أصَابَكُمْ؛ عقوبةً لكم فِي خِلافكم وتَرْكِكُمْ الْمَرْكَزَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }؛ أي عالِمٌ بأعمالِكم من إغْتِمَامِ المسلمينَ وشَمَاتَةِ المنافقينَ.