الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ }؛ وذلك: أنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابُهُ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَقَدْ أصَابَهُمْ مَا أصَابَهُمْ: قَالَ أنَاسٌ مِنْهُمْ: مِنْ أيْنَ أصَابَنَا هَذا وَقَدْ وَعَدَنَا اللهُ النَّصْرَ؟! فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } الذي وعدَ بالنصرِ والظَّفَرِ يومَ أحُدٍ وهو قولهُ:وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } [آل عمران: 120] الآيةُ.

" وقَوْلُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للرُّمَاةِ: " لاَ تَبْرَحُواْ مِنْ مَكَانِكُمْ " ، وَكَانَ صلى الله عليه وسلم قَدْ جَعَلَ أحُداً خَلْفَ ظَهْرِهِ وَاسْتَقْبَلَ الْمَدِيْنَةَ، وَأقَامَ الرُّمَاةَ فِيْمَا يَلِي خَيْلَ الْمُشْرِكِيْنَ، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَاللهِ بْنَ جُبَيْرٍ الأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ لَهُمْ: " احْمُوا ظُهُورَنَا، وَإنْ رَأيْتُمُونَا قَدْ عِشْنَا فَلاَ تُشْرِكُونَا، وَإنْ رَأيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلاَ تَنْصُرُونَا " " وأَقْبَلَ الْمُشْرِكُونَ وأَخَذُواْ فِي الْقِتالِ، فَجَعَلَ الرُّمَاةُ يَتَرَشَّقُونَ خَيْلَ الْمُشْرِكِيْنَ بالنَّبْلِ، وَالْمُسْلِمُونَ يَضْرِبُونَهُمْ بالسَّيْفِ؛ حَتَّى وَلَّوْا هَاربيْنَ وانْكَشَفُواْ مَهْزُومِيْنَ، فَذلِكَ قَوْلُهُ { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } أي تقتلونَهم قَتْلاً ذريعاً شديداً في أوَّل الحرب بأمْرِه وعلمِه { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } أي إلَى أن فَشِلْتُمْ جعلُوا (حَتَّى) بمعنى (إلَى) فحينئذ لا جوابَ لهُ، وقيل: (حَتَّى) بمعنى: فَلَمَّا، وفي الكلامِ تقديمٌ وتأخير.

قالوا: وفِي قوله { وَتَنَازَعْتُمْ } مُقْحَمَةٌ تقديرهُ: حتَّى اذا تنازَعتم في الأمرِ وعصيتُم فشِلْتُم؛ أي جَبُنْتُمْ وضَعُفْتُمْ. وكان { تَنَازَعْتُمْ } أنَّ الرُّمَاةَ لَمَّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ وَقَعَ المُسْلِمُونَ فِي الْغَنَائِمِ؛ قَالُواْ: قَدِ انْهَزَمَ الْقَوْمُ وَأمِنَّا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تُجَاوزُواْ أمْرَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَثَبَتَ عَبْدُاللهِ بْنُ جُبَيرٍ فِي نَفَرٍ يَسِيْرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ دُونَ الْعَشْرَةِ؛ قِيْلَ: ثََمَانِيَةٌ، وَانْطَلَقَ الْبَاقُونَ يَنْتَهِبُونَ، فَلَمَّا نَظَرَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيْدِ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أبي جَهْلٍ إلَى ذلِكَ؛ حَمَلُواْ عَلَى الرُّمَاةِ مِنْ قِبَلِ ذلِكَ الشِّعْب فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ فَارِساً مِنَ الْمُشْرِكِيْنَ، وَكَانَ خَالِدُ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكاً؛ فَقَتَلَ عَبْدَاللهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنَ الرُّمَاةِ، وأَقْبَلُوا عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ خَلْفِهِمْ، وَتَفَرَّقَ الْمُسْلِمُونَ وَانْتَقَضَتْ صُفُوفُهُمْ وَاخْتَلَطُواْ، وَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْمُشْرِكُونَ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ بَيْنِ قَتِيْلٍ وَجَرِيْحٍ وَمُنْهَزِمٍ وَمَدْهُوشٍ، وَنَادَى إبْلِيْسُ: ألاَ إنَّ مُحَمَّداً قَدْ قُتِلَ، فذلكَ قوْلُهُ تَعَالَى: { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ } أي لَمَّا اختلفتُم في الأمرِ الذي أمرَكم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم من الثباتِ على المركزِ، وعصيتُم الرسولَ من بعدِ ما أراكُم ما تحبُّون من النَّصرِ على عدوِّكم والظفرِ والغنيمة. قال بعضُ المفسِّرين: جوابُ { إِذَا فَشِلْتُمْ } هَا هُنَا مُقَدَّرٌ، كأنهُ قالَ: إذا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ امْتُحِنْتُمْ بما رأيتُم من القتلِ والبلاءِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ }؛ معنى: مِنَ الرُّمَاةِ مَن يريدُ الحياة؟ وهمُ الذينَ تركُوا الْمَرْكَزَ وَلم يَثْبُتُوا فيهِ ووقعُوا في الغنائمِ، { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } يعني: الذينَ ثَبَتُوا في المركزِ مع عبدِاللهِ بن جُبير وباقِي الرُّماة حتَّى قُتِلُوا.

السابقالتالي
2