الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ } * { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } * { ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } * { قَالَتْ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } * { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } * { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْعَظِيمِ }؛ أراد بالعرشِ في هذه الآية سريرَ الْمُلْكِ الذي عظَّمَهُ اللهُ ورفعَهُ فوقَ سَماوات سبعٍ وجعلَهُ أعظمَ من السَّماواتِ والأرض، ومِن أعظم كلِّ خلقٍ، وجعل الملائكة تَحُفُّ به وترفعُ أعمالَ العباد إليهِ؛ أي هو الذي يستحقُّ العبادةَ لا غيره، وهو ربُّ العرشِ لا ملكةَ سَبَأ؛ لأن عرشَها وإن كان عَظِيماً لا يبلغُ عرشَ الله في العِظَمِ.

فلمَّا فَرَغَ الهدهدُ من كلامه، { قَالَ }؛ سليمانُ للهدهدِ: { سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ }؛ فيما أخبَرْتَنا به مِن هذه القصَّة، { أَمْ كُنتَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } فنعذِّبُك.

ثُم كتبَ سليمانُ كِتاباً خَتَمَهُ بخَاتَمٍ ودفعهُ إلى الهدهدِ، وذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: { ٱذْهَب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ }؛ أي إلى أهل سبأ. وقولهُ تعالى: { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ }؛ أي انصرِفْ عنهم، وهذا على التقديْمِ والتأخيرِ، تقديرهُ: { فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ }؛ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ؛ لأن التولِّي عنهم بعد الجواب، ومعنى { فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } أي ماذا يردُّونَ من الجواب. وَقِيْلَ: معناهُ: { ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } أي انْصَرِفْ عنهم قَليلاً إلى حيث لا يَرَوْنَكَ { فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ } أي يقولُون ويردون ويحسبون.

وكان كتابُ سُليمانَ عليه السلام: مِنْ عَبْدِ اللهِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ إلَى بَلْقِيْسَ مَلِكَةِ سَبَأ، السَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى. أمَّا بَعْدُ: فَلاَ تَعْلُوا عَلَيَّ وأتُونِي مُسْلِمِيْنَ. وقال ابنُ جريج: (لَمْ يَزِدْ سُلَيْمَانُ عَلَى نَصِّ اللهِ فِي كِتَابهِ). فلمَّا كَتَبَ الكتابَ طَبَعَهُ بالْمِسْكِ وخَتَمَهُ بخاتَمهِ، وقال للهُدهدِ: اذْهَبْ بهِ، فأخذ الكتابَ بمنقارهِ وذهبَ به.

فلما أغلقَتِ المرأةُ الأبوابَ دونَها ونامَتْ على سريرِها، ووضعت المفاتيحَ تحت وسادَتِها، فأتَى بها الهدهدُ من الكُوَّةِ وهي نائمةٌ مستلقية على قَفَاهَا، فألقى الكتابَ على وجهِها ونبَّهَها بمنقارهِ وصوتهِ، فأخذتِ الكتابَ، وكانت كاتبةً قارئة عربيَّة من تُبَّعِ بنِ سراحيل الْحِمْيَرِيِّ، فقرأتِ الكتابَ وناخَرَ الهدهدُ غيرَ بعيدٍ، فدعت بذوي الرَّأيِ من قومِها وهم اثنا عشرَ ألفَ قائدٍ مع كلِّ قائد مائة ألفِ مُقاتلٍ.

وقال قتادةُ: (كَانَ أهْلُ مَشُورَتِهَا ثَلاَثُمِائَةٍ وَثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً) فجَاؤُا إليها، و { قَالَتْ } لَهم: { يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }؛ أي حَسَنٌ، وَقِيْلَ: شريفٌ، وَقِيْلَ: مَخْتُومٌ، قال صلى الله عليه وسلم: " كَرَامَةُ الْكِتَاب خَتْمُهُ " وقولهُ تعالى: { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ }؛ أي الكتابُ مِن سليمانَ، { وَإِنَّهُ }؛ المكتوب، { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُواْ } أي لا تَستَكِبُروا، { عَلَيَّ } ولا ترَفَّعُوا علَيَّ، { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ }؛ منقادِين طائعين.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ } بدلٌ من (كِتَابٌ) وموضعهُ على هذا القولِ رفعٌ، ويجوزُ أن يكون نَصباً على معنى بأن لاَ تَعْلُوا عَلَيَّ. وَقِيْلَ: معنى قوله { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } أي مُؤمِنين باللهِ ورسولهِ مِن الإسلامِ الذي هو دِينُ اللهِ. وَقِيْلَ: مُستَسْلِمين لأَمْرِي فيما أدعُوكُم إليه، فإنِّي لا أدعُوكُم إلاّ إلى حقٍّ، فأطيعُونِي قبلَ أن أكْرِهَكُم على ذلكَ.