الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ }

قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا }؛ أي يخالِفُون اللهَ ويَكْذِبُونَهُ وَيَكْذِبُونَ المؤمنين. ويخالفونَهم في ضمائرِهم وهم المنافقونَ. وأصلُ الْخَدَعِ في اللغة الاختفاءُ؛ ومنهُ قِيْلَ للبيتِ الذي يُخَبَّأُ فيه الْمَتَاعُ: مَخْدَعٌ؛ فالْمُخَادِعُ يُظهرُ خلافَ ما يُضمرُ. وقال بعضُهم: أصل الْخَدَاعِ في اللغة: الفسادُ. وقال الشاعرُ:
أبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيْذٌ طَعْمُهُ   طَيِّبُ الرِّيْقِ إذَا الرِّيْقُ خَدَعْ
أي فَسَدَ، فيكون المعنى: مُفْسِدُونَ ما أظهَروا بألسنتهم مِما أضمَرُوا في قلوبهم. وقيلَ: معناهُ: يخادعونَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كقولهِ تعالى:فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الزخرف: 55] أي آسَفوا نَبيَّنَا. وقَوْلُهُ تَعَالَى:ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } [الأحزاب: 57] أي أولياءَ الله؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يؤذَى ولا يُخادَع. وقد يكون المفاعلةُ من واحد كالمسافَرَة.

فإن قِيْلَ: ما وجهُ مخادعتِهم اللهَ؛ وهو لا يَخفى عليه شيء؟ وما وجهُ مخادعةِ المؤمنين ومخادعةِ أنفسهم؟ قيل: المخادعةُ الإخفاءُ، يقال: انخدعَتِ الضَّبيةُ في جُحرها. واللهُ تعالى لا يخادَع في الحقيقةِ، ولكن أطلقَ عليه اسمُ المخادعةِ لَمَّا فعَلُوا فعلَ المخادِعين. ولو كان يصحُّ لَهم خِداعُهم لقالَ: يَخْدَعُونَ اللهَ. وَقِيْلَ: معناهُ: يخادعونَ رسولَ اللهِ.

وأما مخادعةُ المؤمنينَ، فإظهارُهم لَهم الإسلامَ تُقْيَةً؛ وَقِيْلَ: إظهارُ الإسلامِ لَهم ليكرِمُوهم ويبجِّلوهم. وَقِيْلَ: أظهَروا لَهم ذلك لِيُفْشُوا إليهم سرَّهُم فينقلوهُ إلى أعدائِهم. وأمَّا مخادعةُ أنفُسِهم فضررُ ذلك عليهم. قَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم }؛ لأنَّ وبالَ الخداعِ عائدٌ إلى أنفسهم فكأنَّهم في الحقيقة إنَّما يخدعونَ أنفسهم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَا يَشْعُرُونَ }؛ أي وما يعلمون أنهُ كذلك. والشعرُ: هو العلمُ الدقيقُ الذي يكون حادِثاً من الفطنةِ؛ وهو من شِعَار القلب؛ ومنه سُمي الشاعرُ شاعراً لفطنتهِ لما يدقُّ من المعنى والوزنِ، ومنه الشعرُ لدقَّتهِ. ويقال: ما شَعَرْتُ به؛ أي ما عَلِمْتُ بهِ. وليتَ شِعْرِي ما صنعَ فلانٌ؛ أي ليتَ عِلْمِي.

واختلف القرَّاءُ في قولهِ تعالى: { وَمَا يَخْدَعُونَ } فقرأ نافعُ؛ وابن كثير؛ وأبو عمرٍو: (يُخَادِعُونَ) بالألفِ. وقرأ الباقون: (يَخْدَعُونَ) بغير ألِف على أشهرِ اللغتين وأفصحِهما؛ واختارهُ أبو عُبيدٍ. ولا خلافَ في الأول أنه بالألفِ.