الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ }؛ أي { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ } يا معشرَ اليهودِ { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ } وهو الجبلُ بالسِّريانية في قولِ بعضِهم. وقالُوا: ليسَ من لغةٍ في الدُّنيا إلاَّ وهي في القُرْآنِ! وقال الْحُذَّاقُ من العلماءِِ: لا يجوزُ أن يكونَ في الْقُرْآنِ لُغةٌ غيرَ لغةِ العرب؛ لأنَّ اللهَ تعالَى قال:قُرْآناً عَرَبِيّاً } [الزمر: 28].

وقال:بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ } [الشعراء: 195] وإنَّما قَالَ هذا وأشْبَاهَهُ وفَاقاً وقعَ بين اللُّغتين؛ وقد وجدنَا الطُّور في كلامِ العرب، قال جَرِيرُ:
فَإنْ تَرْسِلْ مَا الْجِنُّ نَسَواْ بهَا   وَإنْ يَرْسِلْ مَا صَاحِبُ الطُّور يَنْزلُ
والمأخوذُ عليهم ميثاقان؛ الأوَّلُ: حين أخرجَهم من صُلب آدم كالذَّرِّ. والثانِي: الذي أخذَ عليهم في التوراةِ وسائرِ الكتب. والمرادُ في هذه الآية الثانِي؛ وذلك أنَّ اللهَ تعالى أنزلَ التوراةَ فأمرَ موسى قومَهُ بالعملِ بأحكامها فأبَوا أن يقبَلُوا ويعمَلُوا بها للآصَار والأثقالَ التي كانت فيها، وكانت شريعتهُ ثقيلةً فأمرَ الله جبريلَ فقطعَ جَبَلاً على قدر عَسكَرِهم؛ وكان فَرْسَخاً في فرسخٍ، فرفعهُ فوق رؤوسِهم مقدارَ قامةِ الرَّجُلِ.

عن ابنُ عبَّاس: (أمَرَ اللهُ جَبَلاً مِنْ جِبَالِ فِلَسْطِيْنَ فَانْقَطَعَ مِنْ أصْلِهِ حَتَّى قَامَ عَلَى رُؤُوسِهِمْ مِثْلَ الظُّلَّةِ). وقال عطاءُ: (رَفَعَ اللهُ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ الطُّورَ، وَبَعَثَ نَاراً مِنْ قِبَل وُجُوهِهمْ؛ وَأتَاهُمُ الْبَحْرُ الْمِلْحُ مِنْ خَلْفِهِمْ). وقيلَ لَهم: { خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ }؛ أي اقبَلُوا ما آتيناكم بجِدٍّ ومواظبةٍ في طاعة الله تعالى. وفيه إضمارٌ؛ أي وقلنا لَهم خُذوا.

وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱذْكُرُواْ مَا فِيهِ }؛ أي احفظوهُ واعملوا بما فيه. وَقِيْلَ: معناهُ: واذكرُوا ما فيه مِن الثواب والعقاب. وفي حرفِ أبي بكرٍ: (وَادَّكِرُواْ) بدالٍ مشدَّدة وكسر الكاف. وفي حرفِ عبدِالله. (وَتَذَكَّرُوا مَا فِيْهِ) ومعناهُما اتَّعِظُوا بهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }؛ أي لكي تَنجُوا من العذاب في العُقبَى والهلاكِ في الدُّنيا إنْ قَبلْتُمُوهُ وفعلتم ما أُمِرْتُم بهِ؛ وإلا وَضَحْتُكُمْ بهذا الجبلِ وأغرقتُكم في البحرِ وأحرقتُكم بهذه النار. فلما رَأوا أنْ لا مهربَ منه قَبلُوا ذلك وسَجَدُوا خَوفاً، وجعَلُوا يلاحظونَ الجبلَ وهم سُجودٌ مخافةَ أن يقعَ عليهم؛ فصارت صِفَةً في اليهودِ لا يسجدونَ إلاَّ على أنصافِ وجُوههم؛ فلمَّا رأوا الجبلَ قالوا: يا موسَى سَمعنا وأطعنا ولولا الجبلُ ما أطعنَا.