الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَٰئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ }؛ ظاهرُ الآيةِ: أن إبليس كان من الملائكة؛ لأنه مُستثنَى منهم، وإلى هذا ذهبَ جماعةٌ من العلماءِ، وقالوا: معنى قولهِ في آيةٍ أُخرَى:إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلْجِنِّ } [الكهف: 50] يعني من خُزَّانِ الجِنَانِ. وذهب جماعةٌ آخرون إلى أنه من أولادِ الجانِّ؛ لأنه مخلوقٌ من نارٍ وله ذريةٌ، والملائكةُ من نورٍ وليس لَهم ذُرية. فعلى هذا يكونُ مُستثنى منقطعاً؛ مثل قولهِ تعالى:مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ } [النساء: 157].

وقيل: سببُ كونه مع الملائكةِ: إن الملائكةَ لَمَّا حاربَتِ الجنَّ سَبَوا إبليسَ صغيراً فنشأَ معهم؛ فلما أُمرتِ الملائكةُ بالسُّجود امتنعَ وكفرَ وعاد إلى أصلهِ.

وقَوْلُهُ تَعَالَى: { ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ } هو سجودُ تعظيمٍ وتحيَّة لا سجودَ صلاةٍ وعبادةٍ؛ نظيرهُ في قصَّة يوسُفَ عليه السلام:وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } [يوسف: 100] وكان ذلك تحيَّة الناسِ وتعظيمَ بعضهم بعضاً؛ ولَم يكن وضعُ الوجهِ على الأرض وإنَّما كان الانحناءَ. فلما جاءَ الإسلامُ أبطلَ ذلك بالسَّلام؛ وفي الحديثِ: " أنَّ مُعَاذ بْنَ جَبَلٍ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْيَمَنِ سَجَدَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: " مَا هَذَا؟ " قَالَ: رَأيْتُ الْيَهُودَ يَسْجُدُونَ لأَحْبَارِهِمْ وَالنَّصَارَى يَسْجُدُونَ لِقِسِّيسِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَهْ يَا مُعَاذُ! كَذَبَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؛ إنَّمَا السُّجُودُ للهِ عَزَّ وَجَلَّ " ".

وقال بعضُهم: سجَدُوا على الحقيقةِ؛ جُعِلَ آدمُ قبلةً لَهم؛ والسجودُ للهِ كما جعلت الكعبةُ قِبلةً لصلاةِ المؤمنين والصلاةُ لله عَزَّ وَجَلَّ. وإنَّما سُمِّي آدم لأنه خُلِقَ من التُّراب؛ والترابُ بلسان العبرانيَّة آدم بالمدِّ؛ ومنهم مَن قالَ: سُمِّي بذلك لأنه كان آدمَ اللَّون. وكُنيته: أبو مُحَمَّدٍ؛ وأبو البَشَرِ.

وقوله: { إِلاَّ إِبْلِيسَ } منصوبٌ على الاستثناء؛ ولا ينصرفُ للعُجْمَةِ والْمَعْرِفَةِ. وقولهُ تعالى: { وَٱسْتَكْبَرَ } أي تكبَّرَ وتعظَّمَ عن السجودِ لآدم.

وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَكَانَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ } أي وصارَ مِن الكافرين كقولهِ تعالى:فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ } [هود: 43]. وقال أكثرُ المفسِّرين: معناهُ: وكان في علمهِ السابقِ من الكافرين الذين وجبَتْ لَهم الشقاوةُ. قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ وَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي؛ وَيَقُولُ: يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ؛ وَأُمِرْتُ بالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النَّارُ ".