* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ }؛ الآية، لَمَّا سبقَ في السورة ذكرُ أحكامٍ كثيرة أثنى اللهُ على مَن آمن بها وقَبلَهَا، وقال عَزَّ من قائلٍ: { ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ } بجميعِ الأحكامِ التي أنزلَها اللهُ تعالى، وكذلك المؤمنونَ كلُّهم آمنوا باللهِ، وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَلاۤئِكَتِهِ }؛ إنَّما أتى بالملائكةِ لأن حَيّاً من خُزاعة كانوا يقولون: الملائكةُ بناتُ اللهِ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: " وَالْمُؤْمِنُونَ يَقُولُونَ: إنَّ الْمَلاَئِكَةَ عِبَادُ اللهِ ".
قولهُ: { وَكُتُبِهِ }؛ قرأ ابن عباس وعكرمةُ والأعمش وحمزة والكسائيُّ وخَلَفُ: (وَكِتَابهِ) بالألفِ. وقرأ الباقون (وَكُتُبهِ) بالجمعِ، وهو ظاهرٌ كقوله { وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسِلِهِ }. وللتوحيدِ وجهان؛ أحدُهما: أنَّهم أرادوا القرآنَ خاصَّةً، والثاني: أنَّهم أرادوا جميعَ الكُتُب؛ كقول العرب: كَثُرَ الدرهمُ والدينار في أيدي الناسِ، يريدون الدراهمَ والدنانيرَ. يدلُّ عليه قَوْلُهُ تَعَالَى:{ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ } [البقرة: 213].
وقَوْلُهُ تََعَالَى: { وَرُسُلِهِ }؛ قرأ الحسن: (وَرُسْلِهِ) بسكونِ السين لكثرةِ الحركات؛ { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ }؛ أي لا نفعلُ كما فعلَ أهلُ الكتاب آمنوا ببعضِ الرسل وكفروا ببعضٍ. وفي مُصحفِ عبدِالله: (لاَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ). وقرأ جُرير بن عبدالله وسعيدُ بن جبيرٍ ويحيى بن يَعْمُرَ ويعقوبُ: (لاَ يُفَرِّقُ) بالياءِ، بمعنى لا يفرِّقُ الكلَّ، ويجوزُ أن يكون خبراً عن الرسولِ. وقرأ الباقون بالنون على إضمار القولِ؛ تقديرهُ: قالوا لا نُفَرِّقُ، كقولهِ تعالى:{ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [الرعد: 23-24]؛ أي يقولون: سلامٌ عليكم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }؛ أي سَمعنا قولَك وأطَعنا أمرَكَ. وقيل: معنى { وَأَطَعْنَا } قَبلْنَا ما سَمعنا؛ بخلافِ ما قالتِ اليهودُ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ }؛ أي اغْفِرْ غُفْرَانَكَ يَا رَبَّنَا. وقيل: معناهُ: نسألُكَ غفرانَك. والأول مصدرٌ، والثاني مفعولٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } أي نحنُ مقرُّون بالبعثِ. ومعنى قوله: { وَإِلَيْكَ } أي إلى جَزَائِكَ؛ وهذا كما قالَ عَزَّ وَجَلَّ حكايةً عن إبراهيمَ عليه السلام:{ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الصافات: 99] أي إلى حيثُ أمرُ رَبي.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ }؛ قرأ إبراهيمُ بن أبي عبلةَ: (إلاَّ وَسِعَهَا) بفتحِ الواو وكسرِ السين على الفعلِ؛ يريدُ إلا وَسِعَهَا أمرُهُ.
ومعنى الآيةِ: { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً } فَرْضاً من فروضها من صومٍ أو صلاة أو صدقةٍ أو غير ذلك من حديثِ النفسِ؛ إلا مقدارَ طاقتها كما قالَ صلى الله عليه وسلم لِعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ: " صَلِّ قَائِماً؛ فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِداً؛ فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبكَ تُومِئُ إيْمَاءٌ ".
قال قومٌ: لو كلَّفَ اللهُ العبادَ فوقَ وسعِهم لكان ذلك لهُ؛ لأن الخلقَ خلقهُ والأمرَ أمره، ولكنه أخبرَ أنه لا يفعلهُ.