الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ }؛ قيل: معناهُ: ما أنفقتُم من نفقةٍ للفقراء، وقيل: معناهُ: عليكم بالنفقةِ للفقراءِ الذين حُبسُوا في طاعةِ اللهِ؛ أي أحْصَرَهُمْ فرضُ الجهادِ فمنعَهم من التصرُّفِ والسيرِ لطلب المعاشِ، وهؤلاء أصحابُ الصُّفَّةِ حَبَسُوا أنفسَهم لطلب العلمِ؛ وفضل الجمعة؛ وخدمةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نحواً من أربعمائةِ رجلٍ لم يكن لهم مساكنُ ولا عشائرُ؛ كانوا معتكفينَ في المسجدِ في صُفَّته؛ قالوا: نخرجُ في كلِّ سَرِيَّةٍ يبعثُها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سبيلِ الله، فحثَّ اللهُ على الصدقةِ عليهم، فكان الرجلُ إذا بقيَ عنده فضلٌ أتاهم به.

وقوله تعالى: { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ } الضربُ في اللغة: السَّيْرُ، يعني لا يستطيعون سَيْراً في الأرضِ للتجارة وطلب المعيشة، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [النساء: 101] وقَوْلُهُ تَعَالَى:وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ } [المزمل: 20]. وقالَ الشاعرُ:
لَحِفْظُ الْمَالِ أيْسَرُ مِنْ فَنَائِهِ   وَضَرْبٌ فِي الْبِلاَدِ بغَيْرِ زَادِ
وقال ابنُ زيد: (مِنْ كَثْرَةِ مَا جَاهَدُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ، فَصَارَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا حَرْباً عَلَيْهِمْ؛ لاَ يَتَوَجَّهُونَ فِيْهَا جِهَةً إلاَّ وَلَهُمْ فِيْهَا عَدُوٌّ). وكان السديُّ يقول: (مَعْنَى { أُحصِرُواْ } أيْ مَنَعَهُمُ الْكُفَّارُ بالْخَوْفِ مِنْهُمْ؛ فَلاَ يَسْتَطِيْعُونَ تَفَرُّقاً فِي الأَرْضِ لِمَنْعِ الْكُفَّار إيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ). وقيلَ: هذا لا يصحُّ؛ لأنه لو كان كذلكَ لقال: حُصِروا، بغير ألِفٍ.

وقال سعيدُ بن جبير: (هَؤُلاَءِ قَوْمٌ أصَابَتْهُمُ جِرَاحَاتٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَصَارُواْ زُمَناً وَأحْصَرَهُمُ الْمَرَضُ وَالزَّمَانَةُ عَنِ الضَّرْبِ فِي الأَرْضِ). فاختارَ الكسائيُّ هذا القولَ لأنه يقال: أُحْصِرُواْ من المرضِ والزَّمَانَةِ عن الضرب في الأرض، ولو أراد الحبسَ قال: حُصِرُواْ، وإنَّما الإحصارُ من الخوفِ أو المرضِ، والحَصْرُ: الحبسُ في غيرهما.

قَوْلُُهُ تَعَالَى: { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } قرأ الحسنُ وأبو جعفر وشيبة وابنُ عامر والأعمشُ وعاصم وحمزةُ: (يَحْسَبُهُمْ) بفتحِ السينِ في جميع القرآن، والباقون بالكسرِ.

ومعنى الآية: يظنُّهم الجاهلُ بأمرِهم وشأنِهم أغنياءَ من التعفُّفِ عن السؤالِ؛ لِتَجَمُّلِهِمْ باللباسِ وكَفِّهِم عن المسألةِ. والتعفُّفُ يُذْكَرُ ويراد به تَرْكَ المسألةِ كما قالَ صلى الله عليه وسلم: " مَنِ اسْتَغْنَى أغْنَاهُ اللهُ تَعَالَى، وَمَنِ اسْتَعَفَّ أعَفَّهُ اللهُ ".

قَوْلُهُ تَعَالَى: { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ }؛ أي تعرفهم أنتَ يا محمدُ بعلامةِ فقرهم ورَثَاثَةِ حالِهم. وقيلَ: بتخشُّعهم وتواضُعِهم. وقيلَ: بصفرة ألوانِهم من الجوعِ وقيامِ الليل وصيامِ النهار. وقيلَ: بفَرَحِهِمْ واستقامةِ حالِهم عند تواردِ البلاءِ عليهم.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً }؛ قال عطاءُ: (إذَا كَانَ عِنْدَهُ غَدَاءٌ لاَ يَسْأَلُ عَشَاءً، وَإنْ كَانَ عِنْدَهُ عَشَاءٌ لاَ يَسْأَلُ غَدَاءً). وقال أهلُ المعاني: { لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً } ولا غيرَ إلحافٍ؛ أي ليس لهم سؤالٌ فيكون إلحافاً، والإلْحَافُ: الإلْحَاحُ، دليلُ هذا القولِ قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } أي من القناعةِ، ولو كانوا يسألونَ لكان يعرفُهم بالسؤالِ لا بالسيماءِ.

السابقالتالي
2