الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ }؛ وذلك أنَّهم قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أفْضَلُ؛ صَدَقَةُ السِّرِّ أوْ صَدَقَةُ الْعَلاَنِيَةِ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ. ومعناها: إنْ تُظهروا الصدقات وتُعلنوها؛ فَنِعِمَّا الشيءُ صدقةُ العلانيةِ.

وأصلُ { فَنِعِمَّا هِيَ }: فَنِعِمَا مَا هِيَ؛ فَوُصِلَتْ وأُدْغِمَتْ. وكان الحسنُ يقرأ: (فَنِعِمَا مَا هِيَ) مفصولةً عن الأصلِ؛ أي نِعْمَتِ الخصلةُ. و(ما) في موضعِ الرفع و(هِيَ) في محلِّ النصب كما يقول: نِعِمَّا الرجلُ رَجُلاً، فإذا عَرَّفْتَ رَفَعْتَ وَقُلْتَ: نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ.

وقرأ أبو جعفر ونافعُ وشيبة وعاصمُ وأبو عمرو بكسرِ النونِ وجزمِ العين، ومثلهُ في سورةِ النساء، واختارهُ أبو عبيدةَ وذلك أنَّها لغةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين قال لَعَمْرِو بنِ العَاصِ: " نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ ".

وقرأ ابنُ عامرٍ ويحيى بن وثابٍ والأعمشُ وحمزة والكسائي وخلفُ بفتح النونِ وكسرِ العين. وقرأ طلحةُ وابن كثيرِ وورش وحفصُ ويعقوب وأيوب بكسر النون والعين. وهي لغاتٌ صحيحةٌ.

قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ }؛ أي وإن تُسرُّوها وتعطوها الفقراءَ سِرّاً فهو خيرٌ لكم وأفضلُ من العلانيةِ، وكلاهُما مقبولٌ منكم إذا كانت النيةُ صادقةً، ولكن صدقةُ السرِّ أفضلُ، قال صلى الله عليه وسلم: " صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّب، وَتُطْفِئُ الْخَطِيْئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَتَدْفَعُ سَبْعِيْنَ بَاباً مِنَ الْبَلاَءِ ".

وقَالَ صلى الله عليه وسلم: " سَبْعَةُ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ: الإمَامُ الْعَادِلُ، وَشابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالْمَسْجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللهِ؛ فَاجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأةٌ ذاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ؛ فَقَالَ: إنِّي أخَافُ اللهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ يَمِيْنُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ، وَرَجُلٌ ذكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ".

قال أهلُ المعاني: هذهِ الآيةُ في صدقةِ التطوعِ، ولإجماعِ العلماءِ أنَّ الزكاةَ المفروضةَ إعلانُها أفضلُ كالصلاةِ المفروضةِ في الجماعةِ أفضلُ من إفرادِها، وكذلكَ سائرُ الفرائضِ؛ لمعنيينِ؛ أحدِهما: ليقتدي به الناسُ، والثاني: لزوالِ التهمةِ؛ لِئَلاَّ يسيءَ به الناسُ الظنَّ، ولا رياءَ في الفرضِ.

وأما النوافلُ والفضائلُ فإخفاؤها أفضلُ لِبُعْدِهَا عن الرياءِ، يدلُّ على صحَّةِ هذا التأويلِ ما روي عن أبي جعفرَ في قولهِ تعالى: { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } قالَ: (يَعْنِي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ } يَعْنِي التّطَوُّعَ). وعن ابنِ عباس أنه قالَ: (جَعَلَ اللهُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ فِي السِّرِّ تَفْضُلُ عَلاَنِيَتَهَا بسَبْعِيْنَ ضِعْفاً، وَصَدَقَةُ الْفَرِيْضَةِ تُفْضُلُ عَلاَنِيَتُهَا سِرَّهَا بخَمْسٍ وَعِشْرِيْنَ ضِعْفاً). وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " الْمُسِرُّ بالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بالصَّدَقَةِ، وَالْجَاهِرُ بالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بالصَّدَقَةِ " وذهب الحسنُ وقتادةُ إلى أن الإخفاءِ في كلِّ صدقةٍ أفضل؛ مفروضةً كانت أم تطوُّعاً.

السابقالتالي
2