الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ }؛ أي أنفقوا من خِيار ما كسبتم، وخيارهُ نظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:لَن تَنَالُواْ ٱلْبِرَّ حَتَّىٰ تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [آل عمران: 92]. وقال ابن مسعودٍ ومجاهد: (مِنْ حَلاَلٍ مَا كَسَبْتُمْ مِنَ الأَمْوَالِ) دليلهُ:يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } [المؤمنون: 51] وقال عَلَيْهِ السَّلاَمُ: " إنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يُحِبُّ إلاَّ الطَّيِّبَ، لاَ يَكْسَبُ عَبْدٌ مَالاً مِنْ حَرَامٍ فَيَتَصَدَّقُ بهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ؛ وَلاَ يُنْفِقُ فَيُبَارِكُ لَهُ فِيْهِ، وَلاَ يَتْرُكُهُ خَلْفَهُ إلاَّ كَانَ زَادَهُ إلَى النَّار، وَإنَّ اللهَ لاَ يَمْحُو السَّيِّءَ بالسَّيِّءِ، وَلَكِنْ يَمْحُو السَّيِّءَ بالْحَسَنِ، وَإنَّ الْخَبيْثَ لاَ يَمْحُو الْخَبيْثَ ".

وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ } أي من أعشار الحبوب والثمار.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ }؛ أي لا تعمَدُوا إلى الرَّدِيء من أموالِكم منه تتصدقون، ولستم بقابضِيه وقابليهِ { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } ، يقول: لو كانَ لبعضِكم على بعضٍ حقٌّ فجاءَ بدون حقِّه، لم يأخذ منهُ إلا أن يَتَغَامَضَ له عن بعضِ حقِّهِ ويتسامَحَ عن عيبٍ فيه، فكيفَ تُعطونه في الصدقةِ.

وقد رُوي في سبب نزول هذه الآية " أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم حَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ وَقَالَ: " إنَّ للهِ فِي أمْوَالِكُمْ حَقّاً ". فَكَانَ يَأْتِي أهْلُ الصَّدَقَةِ بصَدَقَاتِهِمْ فَيَضَعُونَها فِي الْمَسْجِدِ، فَيُقَسِّمُهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ ذاتَ يَوْمٍ بَعْدَمَا تَفَرَّقَ عَامَّةُ أهْلِ الْمَسْجِدِ بعَذْقٍ مِنْ حَشَفٍ فَوَضَعَهُ فِي الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا أبْصَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " بئْسَ مَا صَنَعَ صَاحِبُ الْحَشَفِ " فأَمَرَ بهِ فَعُلِّقَ، فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ يَرَاهُ يَقُولُ: بئْسَ مَا صَنَعَ صَاحِبُ الْحَشَفِ " ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةِ.

وقال بعضُهم: معنى: { وَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ } أي لا تتصدَّقوا بالحرامِ. فيكون معنى { إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } على هذا التأويلِ: إلاَّ أن تَتَرَخَّصُواْ في تناولهِ إنْ كان حَرَاماً. والإغماضُ: تركُ النظرِ، يقال في الْمَثَلِ: أغْمِضْ فِي هَذَا وَغَمَّضْ؛ أي لا تَسْتَقْصِ وكُنْ كأنَّكَ لَمْ تُبْصِرْ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }؛ أي { غَنِيٌّ } عن صدقاتِكم محمودٌ في أفعالهِ، ولم يأمرْكم بالصدقةِ عن عِوَضٍ ولكن بلاكُم بما أمركم، فهو مستحقٌ للحمدِ على ذلك وعلى جميعِ أمرهِ.

وفي الآية إباحةُ الكسب وإخبارٌ أن فيه ما هو طيِّب، قالَ صلى الله عليه وسلم: " وَالْخَيْرُ عَشْرَةُ أجْزَاءٍ أفْضَلُهَا التِّجَارَةُ إذَا أخَذَ الْحَقَّ وَأعْطَى الْحَقَّ " وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " تِسْعَةُ أعْشَار الرِّزْقِ فِي التِّجَارَةِ، وَلاَ يَفْتَقِرُ مِنَ التُجَّار إلاَّ تَاجِرٌ حَلاَّفٌ " " سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ كَسْبَ الرِّزْقِ أفْضَلُ؟ قَالَ: " عَمَلُ الرَّجُلِ بيَدَيْهِ، وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ " وقالَ صلى الله عليه وسلم: " يَا مَعْشَرَ التُّجَّار، إنَّ هَذَا الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ، فَشَوِّبُوهُ بالصَّدَقَةِ ".