الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } * { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

قوله عَزَّ وجَلَّ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }؛ أي تبطِلوا صدقاتِكم بذلك كإبطالِ مَن ينفقُ ماله مُرَاءَاةً وسُمعةً لِيَرَواْ نفقتهُ ويقال: إنه سخيٌّ كريم صالحٌ، يعني بذلك المنافقَ الذي ينفقُ ماله لا رغبةً في الثواب ولا رهبةً من العقاب، بل خوفاً من الناس ورياءً لهم أنه مؤمنٌ. { فَمَثَلُهُ }؛ أي مَثل نفقةِ هذا المنافق الْمُرَائِي؛ { كَمَثَلِ صَفْوَانٍ }؛ أي كحَجَرٍ أملسٍ؛ { عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ }؛ أي مطرٌ كثير شديدُ الوقعِ فذهب بالتراب الذي كان " على " الحجرِ، وبقيَ الحجرُ يابساً لا شيءَ عليه.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَتَرَكَهُ صَلْداً }؛ أي حَجَراً صَلْباً أمْلساً لا يبقى عليه شيء، وهو مِن الأرضِ ما لا يُنْبتُ، ومن الرؤوسِ ما لا شعرَ عليه. قال رُؤْبَةُ:
...........................   بَرَّاقُ أصْلاَدِ الْجَبينِ الأَجْلَهِ
وهذا مثلٌ ضربه اللهُ لنفقةِ المنافق والمرائي والمؤمن الذي يَمُنُّ بصدقته ويؤذي؛ يعني أنَّ الناس يرونَ أن لهؤلاء أعمالاً كما ترَى الترابَ على هذا الصَّفوان، وإذا كان يومُ القيامة اضمحلَّ وبَطَلَ؛ لأنهُ لم يكن للهِ كما أذهبَ الوابلَ ما كان على الصَّفوانِ من التراب، { فَتَرَكَهُ صَلْداً } لا شيءَ عليه.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ }؛ أي لا يقدرُ الْمَانُّ بنفقتهِ والمؤذي والمنافقُ على ثواب شيء مما أنفقُوا، كما لا يقدرُ أحدٌ من الخلقِ على التراب الذي كان على الحجرِ الأملس بعدما أذهبَه المطرُ الشديد.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }؛ أي لا يهديهم حتى يُخلصوا أعمالَهم. وقيل: لا يهديهم بالمثوبة لهم كما يهدي المؤمنينَ.

وأصلُ الوَابلِ من الوَبِيْلِ وهو الشديدُ كما قالَ تعالى:أَخْذاً وَبِيلاً } [المزمل: 16]. ويقال: وَبَلَتِ السَّمَاءُ تَبلُ؛ إذا اشتدَّ مطرُها. والصَّلْدُ: الحجرُ الأملسُ الصلبُ، ويسمى البخيل صَلْداً تشبيهاً له بالحجرِ في أنه لا يخرجُ منه شيء. ويقال للأرضِ التي لا تُنْبتُ شيئاً: صُلْداً، وصَلَدَ الزَّنْدُ صُلُوداً إذ لَمْ يُور نَاراً.

وفي الآية دلالةٌ على أنَّ الصدقةَ وسائرَ القُرَب إذا لم تكن خالصةً لله تعالى لا يتعلَّقُ بها الثوابُ، ويكونُ فاعلها كمن لا يفعلُ؛ ولهذا قالَ أصحابُنا: لا يجوزُ الاسئتجارُ على الحجِّ وسائر الأفعالِ التي من شرطِها أن تُفعل على وجهِ القربةِ؛ لأن أخذَ الأجرَةِ عليها يُخرجها من أنْ تكون قربةً.

ثم ضربَ جَلَّ ذِكْرُهُ لنفقةِ المخلصين المثيبين مثلاً آخرَ أعلى من المثلِ الأول فقالَ: { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ }؛ أي صِفَةُ الذين ينفقون أموالهم لطلب رضا الله تصديقاً وحقيقةً. قال الشعبيُّ والكلبي والضحَّاك: { يَعْنِي تَصْدِيْقاً مِنْ أنْفُسِهِمْ، يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بهَا نُفُوسُهُمْ).

السابقالتالي
2