الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى }؛ نَزَلَتْ فِي شأنِ النفقةِ التي يُسْتَحَقُّ بها الثوابُ المضاعفُ؛ معناهُ: { ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي } طاعةَ اللهِ { ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً } على السائلِ نحو أن يقولَ للسائل إذا وقعَ بينه وبينه خصومةٌ: أعطيتُك كذا، وأحسنتُ إليك، وما أشبهه مما يبغضُ على السائلِ. وأصلهُ من القَطْعِ؛ يقال: مَنَنْتُ الشيءَ إذا قَطَعْتُهُ؛ ومنهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [التين: 6] أي غيرُ مقطوعٍ، ويقال: جَبَلٌ مَنِيْنٌ؛ أي مقطوعٌ. وقيل: أصل الْمِنَّةِ النعمةُ، يقال: مِنَّ (يَمُنُّ) إذا أعْطَى وأنْعَمَ، قال اللهُ تعالى:هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ } [ص: 39] أي أعْطِ أو أمسِك.

وقال الكلبيُّ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، أمَّا عُثْمَانُ رضي الله عنه فَجَهَّزَ الْمُسْلِمِيْنَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بأَلْفِ بَعِيْرٍ بأَقْتَابهَا وَأحْمَالِهَا). " وروي أن عثمانَ جاء بألفِ مِثْقَالٍ في جيشِ العسرةِ فصبَّها في حِجْرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فكانَ صلى الله عليه وسلم يُدْخِلُ يَدَهُ فِيْهَا وَيُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ: " مَا يَضُرُّ عُثْمَانَ مَاذَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ ". وقال أبو سعيدٍ الخدري: رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَافِعاً يَدَيْهِ يَدْعُو لِعُثْمَانَ وَيَقُولُ: " يَا رَب، عُثْمَانُ رَضِيْتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ " فَمَا زَالَ يَدْعُو رَافِعاً يَدَيْهِ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ " ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ. وأما عبدالرحمن بن عوف فقد ذكرنا صدقته.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ أَذًى } أي لا يؤذي السائلَ؛ لا يُعَيِّرُهُ ولا يزجرهُ؛ نحو أن يقول: أنتَ أبداً في فقرٍ وما أبلانا بكَ، وأراحَنَا اللهُ منكَ، وأعطيناكَ فما شكرتَ، وما أشبه ذلك. قَالَ صلى الله عليه وسلم: " الْمَانُّ بمَا يُعْطِي لاَ يُكَلِّمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَِ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَلاَ يُزَكِّيْهِ وَلَهُ عَذَابٌ ألِيْمٌ " فحظرَ اللهُ الْمَنَّ بالصَّنيعة على عبادهِ واختصَّ به صفةً لنفسه؛ لأنه مِن العبدِ تَعيْيْرٌ وَتَكْدِيْرٌ؛ ومِن اللهِ تعالى إفْضَالٌ وَتَذْكِيْرٌ. قال بعضُهم:
أفْسَدْتَ بالْمَنِّ مَا قَدَّمْتَ مِنْ حَسَنٍ   لَيْسَ الْكَرِيْمُ إذَا أعْطَى بمَنَّانِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }؛ أيْ { لا خَوْفٌ عَلَيْهُمْ } فيما يستقبلُهم من أهوالِ يوم القيامةِ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلَّفوا في الدُّنيا.