الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ }؛ معناهُ: إنَّ الذي نزَّلنا عليك خبرَهم في القرآنِ هم الرسلُ لم يكونوا في الفضْلِ متساوينَ، ولكن { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } في الدنيا والعُقبى. ثم فَسَّرَ فضيلةَ كلِّ واحد منهم فقال: { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } وهو مُوسى عليه السلام كَلَّمَهُ اللهُ من غيرِ سفير، { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ } فوقَ بعضٍ { دَرَجَاتٍ }؛ أي اتَّخذ اللهُ إبراهيمَ خليلاً، وسخَّرَ لسليمانَ الريحَ والجنَّ والشياطين وعلَّمه منطقَ الطيرِ. وقال مجاهدُ: (وأرَادَ بهَذِهِ الآيَةِ فَضِيْلَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيْعِ الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح: 4]. وقيل: هو إدريسُ كما قال تعالى:وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [مريم: 57].

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ }؛ أي أعطيناهُ الدلالات على إثبات نبوَّّتهِ من إبراءِ الأَكْمَهِ وَالأَبْرَصِ وإحياءِ الموتى والإنْبَاءِ بما غابَ عنه، { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } أي قوَّيناهُ وأعنَّاهُ بجبريل الطاهرِ حين أرادوا قتلَهُ حتى رفعهُ الله إلى السماء. وقال الحسنُ: (الرُّوحُ جِبْرِيْلُ، وَالْقُدُسُ هُوَ اللهُ تَعَالَى؛ فَيَصِيْرُ تَقْدِيْرُ الآيَةِ: وَقَوَّيْنَاهُ برُوحِ اللهِ تَعَالَى). وعنِ ابن عباسٍ أنه قال: (الْقُدُسُ اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ الَّذِي كَانَ بهِ عِيْسَى عليه السلام يُحْيِي الْمَوْتَى).

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ }؛ أي لو شاءَ اللهُ لَمْ يَقْتَتِلِ الذينَ مِن بعدِ الرسل مِن بعد ما وَضُحَتْ لَهم الحججُ والدلائل كما قالَ تعالى:وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [الأنعام: 35]. وقيل: معناهُ: ولو شاءَ اللهُ لأنزلَ آيةً تضطرُّهم إلى الإيْمان وتَمنعهم عن الكفر كما قال تعالى:إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 4].

وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ } أي شاءَ اختلافَهم فاختلفوا. ويقال: لم يُلْجِئْهُمْ إلىَ الإيْمان؛ لأنَّ التكليفَ لا يُحسن مع الضرورةِ، والجزاءُ لا يُحسن إلا مع التَّلْجِئَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } أي بالكتب والرسلِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }؛ أي ولو شاء الله لم يقتتلوا مع اختلافهم بأن يأمرَ المؤمنينَ بالكَفِّ عن القتالِ، وبأن يَلْجِئَهُمْ جميعاً إلى تَرْكِ القتالِ، { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } مِن تقدير الاتِّفَاقِ والاختلافِ وغيرِ ذلك مِن مَّا تُوجِبُهُ الحكمةُ.