قوله عَزَّ وَجَلَّ: { تِلْكَ ٱلرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ }؛ معناهُ: إنَّ الذي نزَّلنا عليك خبرَهم في القرآنِ هم الرسلُ لم يكونوا في الفضْلِ متساوينَ، ولكن { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } في الدنيا والعُقبى. ثم فَسَّرَ فضيلةَ كلِّ واحد منهم فقال: { مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ ٱللَّهُ } وهو مُوسى عليه السلام كَلَّمَهُ اللهُ من غيرِ سفير، { وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ } فوقَ بعضٍ { دَرَجَاتٍ }؛ أي اتَّخذ اللهُ إبراهيمَ خليلاً، وسخَّرَ لسليمانَ الريحَ والجنَّ والشياطين وعلَّمه منطقَ الطيرِ. وقال مجاهدُ: (وأرَادَ بهَذِهِ الآيَةِ فَضِيْلَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى جَمِيْعِ الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [الشرح: 4]. وقيل: هو إدريسُ كما قال تعالى:{ وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [مريم: 57].
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ }؛ أي أعطيناهُ الدلالات على إثبات نبوَّّتهِ من إبراءِ الأَكْمَهِ وَالأَبْرَصِ وإحياءِ الموتى والإنْبَاءِ بما غابَ عنه، { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ } أي قوَّيناهُ وأعنَّاهُ بجبريل الطاهرِ حين أرادوا قتلَهُ حتى رفعهُ الله إلى السماء. وقال الحسنُ: (الرُّوحُ جِبْرِيْلُ، وَالْقُدُسُ هُوَ اللهُ تَعَالَى؛ فَيَصِيْرُ تَقْدِيْرُ الآيَةِ: وَقَوَّيْنَاهُ برُوحِ اللهِ تَعَالَى). وعنِ ابن عباسٍ أنه قال: (الْقُدُسُ اسْمُ اللهِ الأَعْظَمُ الَّذِي كَانَ بهِ عِيْسَى عليه السلام يُحْيِي الْمَوْتَى).
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلَ ٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ }؛ أي لو شاءَ اللهُ لَمْ يَقْتَتِلِ الذينَ مِن بعدِ الرسل مِن بعد ما وَضُحَتْ لَهم الحججُ والدلائل كما قالَ تعالى:{ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [الأنعام: 35]. وقيل: معناهُ: ولو شاءَ اللهُ لأنزلَ آيةً تضطرُّهم إلى الإيْمان وتَمنعهم عن الكفر كما قال تعالى:{ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 4].
وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَـٰكِنِ ٱخْتَلَفُواْ } أي شاءَ اختلافَهم فاختلفوا. ويقال: لم يُلْجِئْهُمْ إلىَ الإيْمان؛ لأنَّ التكليفَ لا يُحسن مع الضرورةِ، والجزاءُ لا يُحسن إلا مع التَّلْجِئَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ } أي بالكتب والرسلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا ٱقْتَتَلُواْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }؛ أي ولو شاء الله لم يقتتلوا مع اختلافهم بأن يأمرَ المؤمنينَ بالكَفِّ عن القتالِ، وبأن يَلْجِئَهُمْ جميعاً إلى تَرْكِ القتالِ، { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } مِن تقدير الاتِّفَاقِ والاختلافِ وغيرِ ذلك مِن مَّا تُوجِبُهُ الحكمةُ.