الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }

قوله عَزَّ وَجَلَّ: { فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ }؛ الآية، أي فلما خرجَ طالوتُ من البلد { بِٱلْجُنُودِ } يعني خرج بهم من بيتِ المقدس وهُمْ سبعون ألفَ مقاتلٍ؛ وقيل: ثَمانون ألفاً، ولم يختلَّف عنه إلا كبيرٌ لهرمهِ أو مريضٌ لسقمِه أو ضريرٌ لضررهِ أو معذورٌ لعذره. وذلك أنَّهم لَمَّا رأوا التابوت قالوا: قد أتانا التابوتُ وهو النصرُ لا شكَّ فيه، فسارعوا إلى الجهاد، فخرجَ معهُ خَلْقٌ كثير؛ فقال: لا حاجةَ لي في كلِّ ما أرى، ولا أبتغي إلا كلَّ شابٍّ نشيطٍ فارعٍ، ولا يخرجُ معي صاحبُ تجارة ولا رجلُ عليه دَين، ولا رجلٌ تزوجَ امرأةً لم يَبْنِ بها؛ لأنَّهم يكونون مشغولين. فاجتمعَ إليه ثَمانون ألفاً من شرطهِ. فخرجَ بهم في حرٍّ شديد، فأصابَهم العطشُ؛ فسألوا الماءَ؛ فقال لهم طالوتُ: { إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } أي مُخْتَبرُكُمْ بنهرٍ جارٍ؛ وهو نَهر الأردن وفلسطين؛ ليرى طاعتَكم وهو أعلمُ؛ { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي }؛ أي فليسَ من أهل دِيني وطاعتي، وليسَ معي على عدوِّي، { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ }؛ أي ومن لم يشربه، { فَإِنَّهُ مِنِّيۤ }؛ ومعي على عدوِّي، وقد يطلقُ لفظ الطعمِ على الشرب، قَالَ اللهُ تَعَالَى:لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوۤاْ } [المائدة: 93].

قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ }؛ قرأ ابنُ عباس وأبو الجوزاء وابنُ كثير وشيبة ونافعُ وأبو عمرٍو وأيوبُ: (غَرْفَةً) بفتح الغين، وقرأ الباقون بضمِّها؛ وهي قراءةُ عثمان، وهما لُغتان. قال الكسائيُّ: (الغُرْفَةُ بالضَّمِّ: الَّذِي يُجْعَلُ فِي الْكَفِّ مِنَ الْمَاءِ إذا غُرِفَ. وَالْغَرْفَةُ بالْفَتْحِ الاغْتِرَافُ، فَالضَّمُّ اسْمٌ وَالْفَتْحُ مَصْدَرٌ). وقال أبو حاتم: (الغُرْفَةُ بالضِّمِّ: مِلْئُ الْكَفِّ وَمِلْئُ الْمَغْرَفَةِ، وَبالْفَتْحِ الْوَاحِدَةُ مِنَ الْقَلِيْلِ وَالْكَثِيْرِ). قال الكلبيُّ ومقاتل: (كَانَتِ الغُرْفَةُ لَيَشْرَبَ مِنْهَا الرَّجُلُ وَخَادِمُهُ وَدَابَّتُهُ).

قيل: ابتلاهُم اللهُ بذلك النهر ليميِّزَ الصادقَ من الكاذب، وكان أشمويل هو الذي أخبَر طالوتَ بذلك؛ لأنَّ الله تعالى:فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } [الجن: 26-27] فلا يجوزُ هذا القول إلا من نَبيٍّ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَشَرِبُواْ مِنْهُ } { إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ }؛ نصبَ { قَلِيلاً } على الاستثناءِ. قرأ ابنُ مسعود: (إلاَّ قَلِيْلٌ) بالرفعِ، كقول الشاعرِ:
وَكُلُّ أخٍ مُفَارقُهُ أخُوهُ   لَعَمْرُو أبيْكَ إلاَّ الْفَرْقَدَانِ
ومعنى الآية: أنه لَمَّا عُرض لهم النهرُ وقد اشتد بهم العطشُ؛ وقعوا فيه فشربوا كلُّهم أكثرَ من غُرفة إلا قليلاً منهم؛ وهم ثلاثُمائة وثلاثة عشرَ رجلاً كعدَّة أهل بدرٍ، قالَ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ لأَصْحَابهِ: " أنْتُمْ عَلَى عَدَدِ أصْحَاب طَالُوتَ ".

قالوا: فمَنِ اغترفَ غُرفة قويَ وصحَّ إيْمانه وعبَر النهرَ سالماً لكفتْهُ تلك الغرفة الواحدة لشربهِ وخادمهِ ودوابه.

السابقالتالي
2