الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوۤاْ إِصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ ٱلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

قوله عزَّ وَجَلَّ: { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوۤءٍ وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِيۤ أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ }؛ وقال ابنُ عباس: (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأتَهُ، فَإنْ كَانَتْ حُبْلَى كَانَ أحَقَّ برَجْعَتِهَا وَإلاَّ كَانَتْ أحَقَّ بنَفْسِهَا، فَكَانَتِ الْمَرْأةُ إذا أحَبَّتِ الرَّجُلَ قَالَتْ أَنَا حُبْلَى، وَلَيْسَتْ حُبْلَى لِيُرَاجِعَهَا. وَإذا كَرِهَتْهُ وَهِيَ حُبْلَى قَالَتْ: لَسْتُ حُبْلَى؛ لِكَي لاَ يَقْدِرَ عَلَى مُرَاجَعَتِهَا. فَجَعلَ اللهُ عِدَّةَ الْمُطَلَّقَاتِ ثَلاَثةَ قُرُوءٍ، وَنَهَى النِّسَاءَ عَنْ كِتْمَانِ مَا فِي أرْحَامِهِنَّ مِنَ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ).

ومعنى الآيةِ: { وَٱلْمُطَلَّقَاتُ } يَنْتَظِرْنَ { بِأَنْفُسِهِنَّ } ماذا يصنعُ بهن أزواجهُنَّ من الْمُرَاجَعَةِ وتركِ المراجعةِ. وقد اختلفَ السلفُ في القَرْءِ المذكور؛ قال أبو بكرٍ وعمرُ وعثمان وابنُ عباس وابن مسعود وأبو موسَى الأشعري: (هُوَ الْحَيْضُ)، وقالُوا: (إنَّ الزَّوْجَ أحَقُّ بهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ مِنَ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وبه أخذَ أبو حنيفةَ وأصحابُه. وقال ابنُ عمر وزيدُ بن ثابت وعائشةُ: (الأَقْرَاءُ هِيَ الأَطْهَارُ)، (وَإذَا دَخَلَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، فَلاَ سَبيْلَ لَهُ عَلَيْهَا)، وبه قال مالكُ والشافعيُّ.

وإنَّما اختلفَ السلفُ في هذه المسألة؛ لأن القَرْءَ في اللغةِ عبارةٌ عن الحيضِ وعن الطُّهرِ؛ وهو من أسْماء الأضدادِ، قالَ أبو عبيدةَ: (هُوَ خُرُوجٌ مِنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ؛ يُقَالُ: قَرَأ النَّجْمُ إذَا طَلَعَ؛ وَقَرَأ النَّجْمُ إذَا غَابَ). والمرأةُ تخرج من الطهر إلى الحيضِ، ومن الحيضِ إلى الطهر. قال الشاعرُ:
يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارضٍ   لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ
وأرادَ بذلك الحيضَ؛ يعني: أن عداوتَه تَهيجُ في أوقات معلومةٍ كما أن المرأةُ تحيضُ في أوقات معلومةٍ. وقال آخرُ:
أفِي كُلِّ عَامٍ أنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ   تَشُدُّ لأَقْصَاهَا عَزِيْمَ عَزَائِكَا
وَمُوَرِّثةٍ عِزّاً وَفِي الْحَيِّ رفْعَةً   لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكاً
وأرادَ بالقرءِ في هذا البيتِ الطُّهرَ؛ لأنه خرجَ إلى الغزو ولم يَغْشَ نساءَه فأضاع أقراءَهُن؛ أي أطهارَهن.

فلما اختلفَ السلفُ واختلفت اللغةُ في هذا الاسم لم يجب حملهُ على الأمرين جميعاً، ووجبُ حمله على حقيقتهِ دون مجازه. واسم القَرْءِ حقيقةٌ في الحيضِ؛ مجازٌ في الطهر؛ لأن كلَّ طهرِ لا يسمى قرءاً وإنَّما الطهرُ الذي يكونُ بين الحيضتين، فسُمِّي بهذا الاسم لمجاوزتهِ الحيضَ. فلو كان هذا الاسمُ حقيقةً في الطهرِ لكان لا ينتفي عنه بحالٍ؛ لأنَّ الأسْماء الحقائقَ لا تنتفي عن مسمَّياتِها بحال؛ ووجدنا هذا الاسمَ ينتفي عن طهرِ الآيسة والصغيرةِ، فكان حملهُ على الحيض أولَى من حمله على غيرهِ.

فإذا اختلفتِ الأمةُ في ذلك كان المرجعُ إلى لغةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقد قالَ صلى الله عليه وسلم: " الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلاَةَ أيَّامَ أقْرَائِهَا " وأرادَ بالأقراءِ الحيضَ بالإجماعِ، واتَّفَقَ الصَّحَابَةُ أن عدَّة أُمِّ الْوَلَدِ بالْحَيْضِ وكذلك الاستبراء.

السابقالتالي
2 3