الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ }

قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ }؛ افترقَ الناسُ في تفسير هذه الآية على أربعةِ أقوالٍ؛ فرقةٌ منهم يتأولونَها على ظاهرها ويَصِفُونَ الله بالإيتاءِ الذي هو زوالٌ من مكان إلى مكانٍ. وهذا القولُ غير مُرْضٍ تعالى اللهُ عنه. وفرقةٌ يفسرون الإتيانَ تفسيراً مجملاً لا يعدون ظاهر اللفظ، يقولونَ: يأتِي كيفَ شاء بلا كيفٍ. وهذا غير مُرْضٍ أيضاً.

وأما الفرقتان الأُخريان من أهل السُّنَّةِ والجماعة؛ فإحداهما لا يفسِّرون هذه الآية ويقولون: نُؤْمِنُ بظاهِرها ونسكتُ عن الخوضِ في معناها؛ لِما فيه من الاشتباهِ والتشبيه. وقال الكلبيُّ: (هَذَا مِنَ الْمَكْتُومِ الَّذِي لاَ يُفَسَّرُ). وقال ابنُ عباس: (نُؤْمِنُ بهَا وَلاَ نُفَسِّرُهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُتَشَابهَاتِ:وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } [آل عمران: 7]).

وأمَّا الفرقةُ الرابعة فيفسرونَها ويردُّون مثلَ هذه المتشابهات إلى الآياتِ المحكماتِ ويقولون: معناها ما ينظرُ الكفارُ بعد قيامِ الحجةِ عليهم، إلا أنْ يأتيَهم أمرُ اللهِ وهو الحسابُ، أو أن يأتيَهم عذابُ اللهِ؛ لأنَّ الإتيانَ لفظٌ مُشْتَبهٌ يحتملُ حقيقةَ الإتيانِ ويحتمل إتيانَ الأمرِ، وقد قامتِ الدلالةُ على أنَّ اللهَ تعالى لا يجوزُ عليه الإتيانُ والمجيء والانتقالُ والمزاولةُ؛ لأنَّ ذلك من صفاتِ الأجسام وَالْمُحْدَثِيْنَ، واللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن ذلكَ، قال عليٌّ رضي الله عنه: (مَنْ زَعَمَ أنَّ اللهَ فِي شَيْءٍ أوْ مِنْ شَيْءٍ أوْ عَلَى شَيْءٍ فَقَدْ ألْحَدَ؛ لأنَّهُ لَوْ كَانَ مِنْ شَيْءٍ لَكَانَ مُحْدَثاً؛ وَلَوْ كَانَ فِي شَيْءٍ لَكَانَ مَحْصُوراً؛ وَلَوْ كَانَ عَلَى شَيْءٍ لَكَانَ مَحْمُولاً). وإذا كان لفظُ الإتيان مشتبهاً وَجَبَ رَدُّهُ إلى الْمُحْكَمِ نحوُ قولهِ تعالى في سورةِ النحل:هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [النحل: 33].

وقال بعضُهم: معناه: هل ينظرونَ إلا أن يأتيَهم الله بظُلَلٍ من الغمامِ وبالملائكةِ أو معَ الملائكة، فتكونُ في معنى الباء، فعلى هذا التأويل زالَ الإشكالُ وسَهُلَ الأمرُ. وأما ذكرُ الظُّلَّةِ في الآية، فإنَّ الْهَوْلَ إذا بَدَا من الظُّلة المظلمةِ من الحساب كان أعظمَ وأشدَّ، يدلُّ قَوْلُهُ تَعَالَى في قصة شُعيب:فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ ٱلظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الشعراء: 189].

وأما قوله: { وَالْمَلاَئِكَةِ } قرأ أبو جعفر بخفضِ (الْمَلاَئِكَةِ) عطفاً على الغمامِ؛ أي (والظُّلَلِ) مِن الملائكةِ؛ أي جماعةُ من الملائكة. قوله { وَالْمَلاَئِكَةُ } وسَمَّاهم الله ظُلَلاً؛ لأن الملائكةَ لا تسيرُ بالأقدام ولكنها تطيرُ بالأجنحة كما تطيرُ الطيرُ. ومن قرأ: (وَالْمَلاَئِكَةُ) بالرفع؛ وهي قراءةُ الجمهور والإجماع فتقديره: وتأتيهم الملائكةُ في ظُلَلٍ، يدلُّ عليه قراءة أُبَي وعبدِالله: (هَلْ يَنظُرُونَ إلا أنْ يَأْتِيْهُمُ اللهُ وَالْمَلاَئِكةُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ). والغمامُ: هو السَّحابُ الرقيقُ الأبيض، سُمِّيَ بذلك لأنه يَغُمُّ؛ أي يَسْتِرُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَقُضِيَ ٱلأَمْرُ } أي المعنى: الحكمُ بإنزال الفريقين منازلهم من الجنة والنار. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ }؛ أي عواقب الأمور ومصير الخلائق إلى الله تعالى، ومن قرأ (تُرْجَعُ) برفع التاء فعلى ما لم يسم فاعله، ومن قرأ بنصب التاء فمعناه: وإلى الله تصير الأمور. ومن قرأ بالياء؛ فلأن تأنيث الأمور غيرُ حقيقيٍّ.