الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ }؛ وفي هذه الآية نَهيٌ عن البُخْلِ. معناهُ: تصدَّقُوا يا أهلَ الميسرةِ ولا تُمسكوا عن الإنفاقِ { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } فإن البخلَ؛ والإمساك عن ذلك هو الهلاكُ. وهذا قولُ حذيفةَ والحسنُ وعكرمة وعطاء والضحاك. قال ابنُ عبَّاس في هذه الآية: (أنْفِقْ فِي سَبيْلِ اللهِ وَإنْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إلاَّ سَهْمٌ وَاحِدٌ، وَلاَ يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ أنِّي لاَ أجِدُ شَيْئاً). وقال السديُّ: (أنْفِقْ فِي سَبيلِ اللهِ وَلَوْ عِقَالاً).

وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } معناه: ولا تلقُوا أنفسَكم، فعبَّر بالبعضِ عن الكلِّ كقولهِ تعالى:ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [آل عمران: 182] وفَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [الشورى: 30]. وإنَّما حذفَ ذكر النفسِ هنا لأن في الباءَ دليلاً عليه؛ والباءُ زائدة كقولهِ تعالى:تَنْبُتُ بِٱلدُّهْنِ } [المؤمنون: 20]. والعربُ لا تقولُ: ألقَى بيدهِ إلاَّ في الشرِّ، والإلقاءُ في التهلكة معناه: ولا تُمسكوا بأيديكم عن الصدقةِ في الجهاد فتهلَكوا. وقيلَ هو الإسرافُ في الإنفاقِ حتى لا يبقَي له شيئاً يأكلهُ فيتلفُ. وَقِيْلَ: هو أن يخرج بين الصفَّين فيُسْتَقْتَلُ من غيرِ قصدٍ بنكايةِ العدوِّ.

وقيلَ: معنى { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } أي لا يَقُلْ: ليس عندي شيءٌ. وقال الحسنُ: (إنَّهُمْ كَانُواْ يَنْفِرُونَ لِلْغَزْو وَلاَ يُنْفِقُونَ مِنْ أمْوَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). وقال مقاتلٌ: (لَمَّا أمَرَ اللهُ تَعَالَى بالإنْفَاقِ؛ قَالَ رَجُلٌ: أُمِرْنَا بالنَّفَقَةِ فِي سَبْيلِ اللهِ؛ فَإنْ أنْفَقْنَا أمْوَالَنَا بَقِيْنَا فُقَرَاءَ ذَوي مَسْكَنَةٍ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } يَعْنِي أنْفِقُواْ وَلاَ تَخْشُوا الْفَقْرَ فَإنِّي رَازقُكُمْ وَمُخْلِفٌ عَلَيْكُمْ).

وعن أبي الدَّرداءَ وأبي هريرة وعبدِالله بن عمر وجابرٍ وأبي أُمامة والحسن بن عليِّ بن أبي طالب وعمران بن الحصين؛ كلهم حدَّثوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهُ قال: " مَنْ أرْسَلَ نَفَقَةً فِي سَبيْلِ اللهِ وَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ فَلَهُ بكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمَنْ غَزَا بنَفْسِهِ فَأَنْفَقَ فَلَهُ بكُلِّ دِرْهَمٍ سَبْعُمِائَةِ ألْفِ دِرْهَمٍ. ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةَ { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ } " أيْوَلاَ تَيَمَّمُواْ ٱلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } [البقرة: 267].

وقال زيدُ بن أسلمَ: (إنَّ رجَالاً كَانُواْ يَخْرُجُونَ فِي بُعُوثٍ يَبْعَثُهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بغَيِْرِ نَفَقَةٍ؛ فَإمَّا أنْ يُعْطُوهُمْ؛ وَإمَّا كَانُوا عِيَالاً وَوَبَالاً. فَأَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى بالإنْفَاقِ عَلَى أنْفُسِهِمْ فِي سَبيْلِ اللهِ تَعَالَى، فَإذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ مَا تُنْفِقُ فَلاَ تُخْرِجْ نَفْسَكَ بغَيِْرِ نَفَقَةٍ وَلاَ قُوَّةٍ فَتُلْقِي بيَدِكَ إلَى التَّهْلُكَةِ، فَتَهْلَكَ مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ أوْ مِنَ الْمَشْيِ). التَّهْلُكَةُ: مصدرٌ بمعنى الإهلاكِ؛ وهو تَفْعُلَةٌ مِن الهلاكِ. ولَم يَجِئْ مِن كلامِ العرب مصدرٌ على تفعُلةٍ بضمِّ العينِ إلا هذا. وقال بعضُهم: التهلكةُ: كلُّ شيء عاقبتهُ إلى الهلاكِ.

السابقالتالي
2