الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ }؛ أي وقَاتِلُوا في دِين الله وطاعتهِ الذين يقاتِلُونَكم. قال الربيعُ وعبدالرحمن بن زيد: (هَذِهِ أوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ، وَذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأصْحَابَهُ خَرَجُواْ فِي الْعَامِ الَّذِي أرَادُواْ فِيْهِ الْعُمْرَةَ فَنَزَلُواْ بالْحُدَيْبيَةِ قُرِيْباً مِنْ مَكَّةَ). وَالْحُدَيْبيَةُ اسْمٌ لِلْبئْرِ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ باسْمِ الْبئْرِ، فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَقَامَ بالْحُدَيْبيَةِ شَهْراً ثُمَّ صَالَحَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أنْ يَرْجِعَ عَامَهُ ذَلِكَ عَلَى أنْ يُخْلُوا لَهُ مَكَّةَ مِنَ الْعَامِ الْقَابلِ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ، فَيَطُوفَ وَيَنْحَرَ الْهَدْيَ وَيَفْعَلَ مَا يَشَاءُ؛ وَصَالَحُوهُ عَلَى أنْ لاَ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قِتَالٌ إلَى عِشْرِ سِنِينَ. فَرَجَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمَدِيْنَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبلُ تَجَهَّزَ لِعُمْرَةِ الْقَضَاءِ؛ وَكَانُواْ يَخَافُونَ أنْ لاَ تَفِي قُرَيْشٌ بذَلِكَ؛ وَكَانُواْ يَكْرَهُونَ قِتَالَهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ وَفِي الْحَرَمِ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ.

ومعناها: وقاتِلوا في طاعةِ الله الذين يَبْدَأُونَكُمْ بالقتالِ؛ { وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ }؛ أي ولا تنقُضُوا العهدَ بالبداءة بقتالِهم قبلَ تقديمِ الدعوةِ، { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ }؛ أي المتجاوزين عن الْحُدُودِ؛ أي لا يرضَى عنهم عملَهم. فلما نزلت هذه الآيةُ كانَ صلى الله عليه وسلم يقاتلُ مَن قَاتَلَهُ ويكفُّ عمن كفَّ عنه، حتى نزلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [التوبة: 5] فنُسخت هذه الآيةُ وأُمر بالقتالِ مع المشركين كافَّة.

وقال بعضهُم: هذه الآية مُحْكَمَةٌ أُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالقتالِ ولَم يُنسَخْ شيءٌ من حُكمِ هذه الآية؛ فعلى هذا القولِ معنى قوله: { وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } أي لا تقتلُوا النساءَ والصبيان والشيخَ الكبير ولا مَن ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يدَهُ عن قتالِكم؛ فإنْ فعلتم ذلك فقد اعْتَدَيْتُمْ؛ وهو قولُ ابنِ عبَّاس ومجاهد. فمعنى الآية: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } أي الذين هم مِن أهلِ القتال دون النساءِ والولدان الذي لا يقاتلون. فعلى هذا القولِ الآيةُ غير منسوخةٍ.

وقال يحيى بن يحيى: (كَتَبْتُ إلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِالْعَزِيْزِ أسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } فَكَتَبَ إلَيَّ أنَّ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَالرُّهْبَانِ وَمَنْ لَمْ يَنْتَصِبْ لِلْحَرْب مِنْهُمْ).

وقال الحسنُ: ( { وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ } أيْ لاَ تَأْتُوا مَنْ نُهِيْتُمْ عَنْهُ). وقال بعضهم: الاعتداءُ ترك قتالهم. وقال بعضهم: نزلت هذه الآيةُ والقتال كان محظوراً قبل الهجرةِ كما قال تعالى:وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125] ثم أمرَ اللهُ بالقتال بعد الهجرة لمن قاتلهم بهذه؛ ثم نزلت آية أخرى في الإذن بالقتال عامة لِمن قاتَلَهم ولِمن لَم يُقاتِلْهم، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى:أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } [الحج: 39].

وعن سُليمان بن بُريدَةَ عن أبيهِ قال: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا بَعَثَ عَلَى سَرِيَّةٍ أوْ جَيْشٍ أمِيْراً أوْصَاهُ فِي نَفْسِهِ خَاصَّةً بتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَبمَنْ تَبعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ خَيْراً. وَقَالَ: " أُغْزُواْ باسْمِ اللهِ وَفِي سَبيْلِ اللهِ، قَاتِلُواْ مَنْ كَفَرَ باللهِ، أُغْزُواْ وَلاَ تَغْلُواْ وَلاَ تَغْدُرُواْ وَلاَ تُمَثِّلُواْ وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيْداً " ".