الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ }؛ أكلُ المالِ بالباطلِ على وجهين؛ أحدُهما: أخذهُ على وجهِ الظُّلم بالغصب والخيانة وشهادةِ الزُّور واليمينِ الفاجرة؛ والثانِي: أخذهُ من جهات محظورةٍ مع رضاءِ صاحبه؛ مثل القمار وأجرةِ الغناء والملاهي والنائحةِ وثَمن الخمر والخنْزير والرِّبا وأشباهِ ذلك. ومعنى الآيةِ: ولا يأكلُ بعضكم أموالَ بعضٍ بالباطل؛ أي من غيرِ الوجهِ الذي أباحهُ الله تعالى. وأصلُ الباطل: الشيءُ الذاهبُ الزائل؛ يقال: بَطَلَ يَبْطُلُ بُطُولاً وَبُطْلاَناً؛ إذا ذهبَ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ }؛ أي ولا تظهروا حجَّتكم للحكام بالباطل، فيحكمُ الحاكم في الظاهرِ مع عِلْمِ المحكوم له أنه غير مستحقٍّ في الباطنِ. وأصلُ الإدلاء: هو إرسالهُ الدلوَ في البئر؛ يقال: أدلَى دلوهُ؛ إذا أرسَلها، قَالَ اللهُ تَعَالَى:فَأَدْلَىٰ دَلْوَهُ } [يوسف: 19] ودلاَّها يَدْلُوهَا؛ إذا أخرجَها ثم جعل كلَّ إلقاءِ قولٍ أو فعلٍ إدْلاءً، ومنه قِيْلَ للمحتجِّ بدعواهُ: أدلَى بحجَّته؛ لأن الحجَّةَ سببُ وصولهِ إلى دعواهُ كالدلوِ سببُ وصوله إلى الماءِ.

واختلف النحاةُ في مَحَلِّ قولهِ: { وَتُدْلُواْ بِهَا } قال بعضُهم: الجزم لتَكَرُّر حرف النهي؛ أي لا تأكلوا ولا تدلوا وكذلك هو في حرف أُبَي بإثبات (لاَ). وقيل: هو نصبٌ على الظَّرفِ كقول الشاعرِ:
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ   عَارٌ عَلَيكَ إنْ فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَقَِيْلَ: نُصِبَ بإضمار (إنْ) المخفَّفة. وقال الأخفشُ: (نُصِبَ عَلَى الْجَوَاب بالْوَاو).

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }؛ أي لتأكلوا طائفةً من أموالِ الناس بالظلم والجور وأنتم تعلمون أنكم مبطلونَ في دعواكم. قال ابنُ عباس: (هَذَا فِي الرَّجُلِ يَكُونُ عَلَيْهِ مَالٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيْهِ بَيِّنَةٌ؛ فَيَجْحَدُ الْمَالَ وَيُخَاصِمُهُمْ فِيْهِ إلَى الْحُكَّامِ؛ وَهُوَ يَعْرِفُ أنَّ الْحَقَّ عَلَيْهِ وَيَعْلَمُ أنَّهُ إثْمٌ أكْلُ حَرَامٍ). وقال مجاهدُ: (مَعْنَى الآيَةِ: لاَ تُخَاصِمْ وَأَنْتَ ظَالِمٌ). وقال الحسنُ: (هُوَ أنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ عَلَى صَاحِبهِ حَقٌّ؛ فَإذَا طَالَبَهُ بهِ دَعَاهُ إلَى الْحَاكِمِ؛ فَيَحْلِفُ لَهُ وَيَذْهَبُ بحَقِّهِ). وقال الكلبيُّ: (هُوَ أنْ يُقِيْمَ شَهَادَةَ الزُّور). وقال شُريح لبعض الخصومِ: (إنِّي أقْضِي لَكَ وَأنَا أظُنُّكَ ظَالِماً؛ وَلاَ يَسَعُنِي إلاَّ أنْ أقْضِيَ بمَا يَحْضُرُنِي مِنَ الْبَيِّنَةِ؛ وَإنَّ قَضَائِي لاَ يُحِلُّ لَكَ حَرَاماً).

وعن أبي هريرةَ؛ قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ يَكُونُ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بشَيْءٍ مِنْ مَالِ أخِيْهِ فَإنَّمَا أقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ ".