الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ }؛ أي من أعلامِ دينهِ ومتعبداته؛ وأراد بالشعائر ها هنا مناسكَ الحج. وسببُ نزول هذه الآية: أنَّ أنسَ بن مالك رضي الله عنه قالَ: (كُنَّا نَكْرَهُ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَفَّا وَالْمَرْوَةَ لأنَّهُمَا كَانَا مِنْ مَشَاعِرِ قُرَيْشٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَتَرَكْنَاهُ فِي الإسْلاَمِ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ).

وقال ابنُ عباس: (كَانَ عَلَى الصَّفَا صَنَمٌ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: إسَافاً، وَعَلَى الْمَرْوَةِ صَنَمٌ عَلَى صُورَةِ امْرَأةٍ يُقَالُ لَهَا: نَائِلَةً. وَإنَّمَا ذَكَّرُواْ الصَّفا لِتَذْكِيْرِ إسَافَ، وَأنَّثُواْ الْمَرْوَةَ لِتَأْنِيْثِ نَائِلَةَ؛ وَزَعَمَ أهْلُ الْكِتَاب أنَّهُمَا زَنَيَا فِي الْكَعْبَةِ فَمَسَخَهُمَا اللهُ، فَوَضَعَهُمَا عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُعْتَبَرَ بهِمَا، فَلَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ عُبدَا مِنْ دُونِ اللهِ تَعَالَى. وَكَانَ أمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا طَافُواْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مَسَحُواْ الصَّنَمَيْن. فَلَمَّا جَاءَ الإسْلاَمُ كَرِهَ الْمُسْلِمُونَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا لأَجْلِ الصَّنَمَيْنِ، وَقَالَتْ الأَنْصَارُ: إنَّ السَّعْيَ مِنْ أمْرِ الْجَاهِليَّةِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ { إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ } ).

قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا }؛ أي فلا إثم في الطواف بينهما لمكان الأصنام عليهما، فإن الطواف بينهما واجبٌ. والجُناح هو الإثم؛ وأصله يتطوَّفُ وأدغمت التاء في الطاء. وقرأ أبو حيوة: (يَطُوفُ بهِمَا) مخففة.

واختلفَ العلماءُ في السعي؛ فقالَ أبو حنيفة وأصحابهُ والثوري: هو واجبٌ وينجبرُ بالدم. وقال مالكٌ والشافعي: هو فرضٌ، ولا ينجبرُ بالدم كطوافِ الزيارة. وقال أنسُ بن مالك وابنُ الزبير ومجاهدٌ: هو تطوعٌ إن فعلَهُ فحسنٌ، وإنْ تركَهُ لم يلزمهُ شيء، واحتجُّوا بقراءةِ ابن عباس وابن سيرينَ: (فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ لاَ يَطُوفَ بهِمَا). وكذلك هو في مصحفِ عبدالله؛ ويقولهِ بعد ذلك: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) وهذا دليلٌ على أنه تطوُّعٌ.

والجوابُ عنه: أن (لا) صلةٌ كقوله:مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12] وقوله:لاَ أُقْسِمُ } [القيامة: 1]. وحُجة من أوجبهُ: أنَّ اللهَ سَماهما { مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ }. وأما قوله: { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } فمعناهُ من زاد على الطواف الواجب. وحجةُ من قال إنه فرضٌ: فتسميةُ الله له من شعائره. قلنا: هذا لا يدلُّ على الفريضة؛ فإن الله سَمَّى المزدلفةَ المشعر الحرام؛ ولا خلافَ أنَّ الدم يقومُ مقامه.

وسُمِّي الصَّفَا؛ لأنه جلسَ عليه صَفِيُّ اللهِ آدم عليه السلام. وسميت المروةُ؛ لأنَّها جلست عليها امرأته حوَّاءُ، وأصلُ السعيِ: أنَّ هاجرَ أُمَّ إسماعيلَ لَمَّا عطش ابنها إسماعيل وجاعَ صعدت على الصَّفا فقامت عليه تنظرُ؛ هل تَرى من أحدٍ؟ فلم ترَ أحداً؛ فهبطت من الصَّفا حتى جاوزتِ الواديَ ورفعت طرفَ دِرعها ثم سعت سعيَ الإنسان المجهودِ حتى جاوزت الوادي؛ ثم أتتِ المروةَ وقامت عليها؛ هل ترى أحداً؟ فلم ترَ أحداً، فعلتْ ذلكَ سبع مراتٍ.

قَوْلُهُ تَعالَى: { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً }؛ قرأ حمزةُ والكسائي: (يَطَّوَّعْ) بالياء وتشديد الطاء والجزم. وكذلك الثاني بمعنى يتطوع. وقرأ عبدالله: (يَتَطَوَّعْ) وقرأ الباقون: (تَطَوَّعَ) بالتاء ونصب العين. ومعنى الآية: ومن زاد في الطواف الواجب. وقال ابنُ زيد: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَاعْتَمَرَ). وقيل: من تطوع بالحج والعمرة بعد حجته الواجب. وقال الحسن: (فِعْلُ غَيْرِِ الْمَفْرُوضِ عَلَيْهِ مِنْ زَكَاةٍ وَصَلاَةٍ وَنَوْعٍ مِنْ أنْوَاعِ الطَّاعَاتِ كُلِّهَا)؛ { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }؛ أي مجاز له بعمله عليمٌ بنيَّته يشكرُ اليسير ويعطي الكثير ويغفر الكبير.