الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }

قولهُ عَزَّ وَجَلَّ: { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }؛ أي يجازيهم على استهزائهم فسمَّى الجزاءَ باسمِ الابتداءِ؛ إذ كان مثلَهُ في الصورة؛ كقولهِ تعالَى:وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40] فسمَّى جزاءَ السيئةِ سيئةً. وقالَ تعالى:فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ } [البقرة: 194] والثانِي ليس باعتداءٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَيَمُدُّهُمْ فِي } أي يُمْهِلُهُمْ ويتركهم في ضلالتِهم يتحيَّرون؛ يقال: مدَّ في الشَّرِّ؛ ويَمُدُّ في الخيرِ؛ وقال يونسُ: (الْمَدُّ التَّرْكُ؛ وَالإمْدَادُ فِي مَعْنَى الإعْطَاءِ). وقيل: مَدَّهُ وأمدَّه بمعنى واحد. وقال الأخفشُ: ( { وَيَمُدُّهُمْ } أي يَمُدُّ لَهُمْ؛ فَحَذَفَ اللاَّمَ). والطغيانُ: مجاوزة الحدِّ؛ يقال: طَغَى الماءُ إذا جاوزَ حدَّهُ؛ وقيل لفرعونَ:إِنَّهُ طَغَىٰ } [طه: 24] أي أسرفَ في الدعوى حيثُ قال:أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24].

وقرأ ابنُ محيصن: (وَيُمِدُّهُمْ) بضم الياءِ وكسرِ الميم؛ وهما لُغتان. إلا أن الْمَدَّ أكثرُ ما يجيئ في الشرِّ، قال اللهُ تعالى:وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً } [مريم: 79]، والإمدادُ في الخيرِ قال اللهُ تعالى:وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } [نوح: 12]، وقالَ تعالى:أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ } [المؤمنون: 55]. وَقِيْلَ: معنى { ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } أي يوبخهم ويغَبيهم ويُجهِّلُهم. وَقِيْلَ: معناه: الله يُظهِرُ المؤمنين على نفاقهم.

وقال ابنُ عبَّاس: (هُوَ أنْ يُطْلِعَ اللهُ الْمُؤْمِنِيْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الْمُنَافِقِيْنَ وَهُمْ فِي النَّار، فَيَقُولُونَ لَهُمْ: أتُحِبُّونَ أنْ تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ بَابٌ إلَى الْجَنَّةِ وَيُقَالُ لَهُمْ: ادْخُلُواْ، فَيَأْتُونَ يَتَقَلَّبُونَ فِي النَّارِ، فَإِذَا انْتَهَواْ إلَى الْبَاب سُدَّ عَلَيْهِمْ وَرُدُّواْ إلَى النَّار؛ وَيَضْحَكُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْهُمْ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:إِنَّ ٱلَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا ٱنقَلَبُوۤاْ إِلَىٰ أَهْلِهِمُ ٱنقَلَبُواْ فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ * وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَٱلْيَوْمَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ٱلْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ } [المطففين: 29-34].

وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يُؤْمَرُ بنَاسٍ مِنَ الْمُنَافِقِيْنَ إلَى الْجَنَّةِ حَتَّى إذَا دَنَواْ مِنْهَا وَوَجَدُواْ رَائِحَتَهَا وَنَظَرُواْ إلَى مَا أعَدَّ اللهُ لأَهْلِهَا مِنَ الْكَرَامَةِ، نُودُواْ أنِ اصْرِفُوهُمْ عَنْهَا؛ فَيَرْجِعُونَ بحَسْرَةٍ وَنَدَامَةٍ لَمْ تَرْجِعِ الْخَلاَئِقُ بِمثْلِهَا؛ فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا لَوْ أدْخَلْتَنَا النَّارَ قَبْلَ أنْ تُرِيَنَا مَا أرَيْتَنَا كَانَ أهْوَنَ عَلَيْنَا؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: هَذَا الَّذِي أرَدْتُ بكُمْ؛ هِبْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تَهَابُونِي؛ أجْلَلْتُمُ النَّاسَ وَلَمْ تُجِلُّونِي؛ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ النَّاسَ بأَعْمَالِكُمْ خِلاَفَ مَا كُنْتُمْ تُرُونِي مِنْ قُلُوبكُمْ، فَالْيَوْمَ أُذِيْقُكُمْ مِنْ عَذَابي مَا حَرَمْتُكُمْ مِنْ ثَوَابي ".

فإن قِيْلَ: لِمَ أمرَ اللهُ تعالى بقتالِ الكفار المعلنين الكفرَ ولم يأمُرْ بقتالِ المنافقين وهم في الدَّرْكِ الأسفلِ من النار؛ وخالفَ بين أحكامهم وأحكامِ الكفار الْمُظْهِرِيْنَ الكفرَ وأجراهم مُجْرَى المسلمين في التوارث والأنْكِحَةِ وغيرها؟ قيل: عقوباتُ الدنيا ليست على قدر الإجرام؛ وإنَّما هي على ما يعلمُ الله من المصالح؛ ولِهذا أوجبَ رجمَ الزانِي الْمُحَصَنِ ولَم يُزِل عنهُ الرجمَ بالتوبةِ؛ والكفرُ أعظم من الزنا ولو تابَ منه قُبلت توبتهُ. وكذلك أوجبَ الله على القاذفِ بالزنا الجلدَ ولَم يوجبه على القاذفِ بالكفرِ؛ وأوجبَ على شارب الخمر الحدَّ ولَم يوجبه على شارب الدمِ.