قَوْلُهُ تَعَالَى: { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ }؛ الآيةُ، وذلك أنهُ جاءَ أحبارُ اليهودِ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالُوا لَهُ: بمَنْ نُؤْمِنُ مِنَ الأَنْبيَاءِ؟ فأنزلَ اللهُ: { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ }؛ { وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا }؛ يعني القرآنَ، { وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ }؛ وهي عشرَةُ صُحُفٍ، { وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ }؛ يعني أولادَ يعقوبَ واحدهم سِبْطٌ، سُموا بذلك لأنه وُلِدَ لكلِّ واحدٍ منهم جماعةٌ من الناس، وسِبْطُ الرَّجُلِ: حَافِدُهُ، ومنه قيل للحسنِ والْحُسين: سِبْطَيْنِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم. والأسباطُ من بني إسرائيلَ كالقبائلِ من العرب؛ والشعوب من العَجَم، فكان في الأسباطِ أنبياءٌ؛ فلذلكَ قال اللهُ تعالى { وَمَآ أُنْزِلَ } إليهم؛ وقيل: هم بَنُو يعقوبَ من صُلبهِ صاروا كلُّهم أنبياءَ.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ }؛ يعني التوراة، { وَعِيسَىٰ }؛ يعني الإنجيل، { وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }؛ أي لا نؤمنُ ببعضٍ ونَكْفُرُ ببعضٍ كما فعلتِ اليهودُ والنصارى، بل نؤمن بجميعِ أنبياءِ الله وكُتُبهِ؛ فلما نزلتْ هذهِ الآيةُ قرأهَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على اليهودِ والنصارى وقال: " إنَّ اللهَ أمَرَنِي بهَذَا " فلما سَمعتِ اليهودُ بذكرِ عيسى أنكرُوا وكَفَرُوا وقالوا: لا نؤمنُ بعيسى. قالتِ النصارَى: إنَّ عيسَى ليسَ بمَنْزِلَةِ الأنبياءِ ولكنهُ ابنُ الله، فأنزلَ اللهُ تعالى قولَهُ تعالى: { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ }؛ أي فإنْ آمَنوا بجميعِ ما آمَنْتُمْ بهِ كإيْمانِكم. قِيْلَ: معناهُ: فإنْ آمَنوا بما آمنتم به.
و(مِثْلِ) هنا صلةٌ، وهكذا كانوا يقرأونَها. كان يقرؤها ابنُ عباسٍ ويقول: إقْرَأْوا (فَإِنْ آمَنُواْ بمِا آمَنْتُمْ بِهِ) فليسَ للهِ مِثْلٌ. وقيل: بمعنى (على). وقيل: الباءُ زائدةٌ. ومعنى الآية: إنْ آمَنوا باللهِ ورُسُلِهِ وكُتُبهِ فقدِ اهتَدَوا.
وقَوْلُهُ تَعَالَى: { وَّإِن تَوَلَّوْاْ } أي وإنْ أعْرَضُوا عن الإيْمانِ بالقرآنِ ومُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ } أي خلافٍ وعداوة، يقال: فلانٌ وفلانٌ تَشَاقَّا؛ أي أخذَ كلُّ واحدٍ منهم بشِقٍّ غيرِ شِقِّ صاحبهِ. دليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى حاكياً عن شُعيب:{ وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ } [هود: 89] أي خِلافِي. وقيل: مأخوذٌ مِما أخذَ كلُّ واحد فيما يَشُقُّ على صاحبهِ. وقال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ: فَإنَّمَا هُمْ فِي ضَلاَلٍ). وقال الكسائيُّ: (مَعْنَاهُ: فَإنَّمَا هُمْ فِي خَلْعِ الطّاعَةِ). وقال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: فإنَّمَا هُمْ فِي بعَادٍ وَفِرَاقٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
وقيل: لَمَّا انتَهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: { وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ } قالت النصارى: لن نؤمنَ بموسى ولا نؤمنُ بكَ، فأنزلَ اللهُ تعالى:{ قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } [المائدة: 59].
وإنَّما أضافَ اللهُ الإنزالَ إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطِ، وإنَّما كان الإنزالُ على آبائِهم؛ لأنَّهم كانوا جميعاً يعلَمُون ذلك، فأضافَ الإنزالَ كما قال: { قُولُوۤاْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا } أي إلى نَبيِّنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: { فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ }؛ يعني اليهودَ والنصارى؛ أي فَسَيَكْفِيْكَهُمُ اللهُ يا مُحَمَّدُ وسائرُ المسلمين شَرَّ اليهودِ والنصارى، { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ } ، لأقوالِهم، { ٱلْعَلِيمُ } ، بأحوالِهم، فكفاهُ الله أمرَهم بالقتلِ والسَّبي في بني قُرَيْظَةَ؛ والجلاءِ والنَّفي في بني النَّضِيْرِ؛ والجزيةِ والذِّلةِ في نصارى نَجران.