الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } * { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَوَصَّىٰ بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ }؛ قرأ أهلُ المدينةِ وأهلُ الشَّام: (وَأوْصَى) بالألفِ. وقرأ الباقون بالتشديد. وهما لُغتان؛ يقال: أوْصَيْتُهُ وَوَصَّيْتُهُ؛ إذا أمرتُهُ مثلَ إِنْزِلْ ونَزِّلْ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: { بِهَآ } يعني بكلمةِ الإخلاص: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ. وقال أبو عُبيدةَ: (إنْ شِئْتَ رَدَدْتَ الْكِنَايَةَ إلَى الْمِلًَّةِ؛ لأَنَّهُ ذكَرَ مِلَّةَ إبْرَاهِيْمَ؛ وَإنْ شِئْتَ رَدَدْتَهَا إلَى الْوَصِيَّةِ). وقال المفضَّلُ: (بالطَّاعَةِ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ). وكنايةُ الْمِلَّةِ هنا أصحُّ؛ لأن ردَّها إلى المذكور أولَى من ردِّها إلى المدلولِ، وكلمةُ الإخلاصِ مدلولٌ عليها في ضِمْنِ قولهِ تعالى: { قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.

وبَنُو إبراهيمَ أربعةٌ: إسْمَاعِيْلُ؛ وَإسْحَاقُ؛ وَمَدْيَنُ؛ وَمَدَائِنُ. قوله تعالى: { وَيَعْقُوبُ } قيل: سُمي بيعقوبَ؛ لأنه خرجَ على إثْرِ العيصِ؛ وقد مَضَتْ قصتُهما. وقيل: سُمي بيعقوبَ لكثرة عَقِبهِ، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " بُعِثْتُ عَلَى إثْرِ ثَمَانِيَةِ آلاَفِ نَبيٍّ: أرْبَعَةُ آلاَفٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيْلَ " ومعنى الآية: وصَّى بها أيضاً يعقوبُ بَنِيْهِ الاثنَي عَشَرَ. وحُكي عن مجاهدٍ أنه حكى عن بعضِهم: (وَيَعْقُوبَ) بالنصب عطفاً على بَنِيْهِ داخلاً في جُملتها الموصِّيين.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { يَابَنِيَّ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ لَكُمُ ٱلدِّينَ }؛ أي الإسلامَ، { فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ }؛ أي مؤمنون. وقيل: مُخلصون. وقيل: مُحسنون بربكم الظنَّ. وقيل: مُفَوِّضُونَ.

روي أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ الْيَهُودُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ألَسْتَ تَعْلَمُ أنَّ يَعْقُوبَ يَوْمَ مَاتَ أوْصَى بَنِيْهِ بدِيْنِ الْيَهُودِيَّةِ؟ فأنزلَ اللهُ تعالى قولَهُ: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ٱلْمَوْتُ }؛ أي أكنتم أيُّها اليهودُ حضوراً حين حضرَ يعقوبَ الموتُ، { إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ }؛ الصادِقَ، { وَإِسْحَاقَ }؛ الْحَلِيْمَ.

والمراد بحضور الموت: حضورُ أسبابهِ؛ لأن مَن حضرَهُ الموتُ لا يتمكَّن من القولِ، وقد سُمي سببُ الشيء باسْمِه. كما قالَ تعالى:وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [الشورى: 40].

وقال الكلبيُّ: (مَعْنَى الآيَةِ: أنَّ يَعْقُوبَ لَمَّا دَخَلَ مِصْرَ رَأى أهْلَهَا يَعْبُدُونَ الأَوْثَانَ وَالنِّيْرَانَ؛ فَجَمَعَ أوْلاَدَهُ وَخَافَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ. وَقَالَ لَهُمْ: مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي). وقال عطاءُ: (إنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَقْبضْ نَبيّاً حَتَّى يُخَيِّرَهُ بَيْنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ، فَلَمَّا خَيَّرَ يَعْقُوبَ قَالَ: أنْظِرْنِي حَتَّى أَسْأَلَ أوْلاَدِي وَأُوْصِيَهُمْ؛ فَجَمَعَ أوْلاَدَهُ وَأَوْلاَدَ أوْلاَدِهِ وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ حَضَرَ أجَلِي، فَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ أيْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِي. { قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ }. { إِلَـٰهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }.

قرأ يحيى بن مُعَمَّر: (إلَهَ أبيْكَ) على التوحيدِ؛ قال: لأنَّ إسماعيلَ عمُّ يعقوبَ لا أبوهُ. وقرأ العامَّة: (وَإلَهَ آبَائِكَ) على الجمعِ. وقالوا: عمُّ الرجل صِنْوُ أبيهِ. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم للعباسِ: " هَذَا بَقِيَّةُ آبَائِي " والعربُ تُسمي العمَّ أباً كما تُسمِّي الْخَالَةَ أُمّاً. قال اللهُ تعالى:وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [يوسف: 100] يعني يعقوب وليان؛ وهي خالةُ يوسف عليه السلام.