الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } * { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا }؛ اختلَفُوا في الخطاب الذي في أوَّل هذه الآيةِ، قال بعضُهم: هو راجعٌ إلى الكفارِ؛ لأنه تقدَّمَه قَوْلُهُ تَعَالَى:ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِٱلَّذِينَ هُمْ أَوْلَىٰ بِهَا صِلِيّاً } [مريم: 70]، وقالَ الأكثرون: هذا خطابٌ مبتدَأ لجميعِ الخلقِ، ودليلهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّنَذَرُ }؛ أي نُنْجِي مِن الواردينَ مَنِ اتَّقَى.

ثُم اخْتَلَفَ هؤلاءِ أيضاً في معنى الْوُرُودِ، قال بعضُهم: هو الدُّخُولُ كما في قولهِ تعالىفَأَوْرَدَهُمُ ٱلنَّارَ } [هود: 98] أي أدْخَلَهم النارَ، وقالوا: إلاّ أنَّها تكونُ على المؤمنينَ بَرْداً وسَلاماً، واستدلُّوا بما روى جابرٌ رضي الله عنه: أنَّهُ أهْوَى بيَدَيْهِ إلَى أُذُنَيْهِ وَقَالَ: صُمَّتا إنْ لَمْ أكُنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " الْوَرُودُ الدُّخُولُ، لاَ يَبْقَى بَرٌّ وَلاَ فَاجِرٌ إلاَّ دَخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ بَرْداً وَسَلاَماً، كَمَا كَانَتْ عَلَى إبْرَاهِيْمَ، حَتَّى أنَّ لِلنَّارِ ضَجِيْجاً بوُرُودِهِم " وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلاَثةُ أوْلاَدٍ لَمْ يَلِجِ النَّارَ إلاَّ تَحِلَّةَ الْقَسَمِ، ثُمَّ قَرَأ: { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } ".

ومعنى القَسَمِ: أن أولَ هذه الآيةِ فيها إضمارُ القَسَمِ؛ تقديرهُ: وَاللهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ إلاَّ وَارِدُهَا، ورُويَ عن ابنِ مسعود أنهُ قال: " الصِّرَاطُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ مِثْلُ حَدِّ السَّيْفِ، تَمُرُّ عَلَيْهِ الطَّائِفَةُ الأُوْلَى كَالْبَرْقِ، وَالثَّانِيَةُ كَالرِّيْحِ، وَالثَّالِثَةُ كَالْجَوَادِ السَّابقِ، وَالرَّابعَةُ كَأَجْوَدِ الْبَهَائِمِ، ثُمَّ يَمُرُّونَ وَالْمَلاَئِكَةُ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ؛ اللَّهُمَّ سَلِّمْ "

وعن أبي هريرةَ: أنَّهُ أوَى إلَى فِرَاشِهِ فَقَالَ: (يَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، فَقَالَتِ امْرَأتُهُ مَيْسَرَةُ: إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أحْسَنَ إلَيْكَ، هَدَاكَ إلَى الإسْلاَمِ. قَالَ: أجَلْ؛ وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ بَيَّنَ لَنَا أنَّا لَوَارِدُونَ النَّارَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أنَّا خَارجُونَ مِنْهَا).

وقال بعضُهم: الورودُ هو الإشرافُ على النار بلا دخولٍ؛ لأن موضعَ المحاسبةِ يكون قريباً من النار، وقد قَالَ اللهُ تَعَالَى:وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [القصص: 23] ولَم يكن موسى دَخَلَ الماءَ، واستدَلُّوا بما روي أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: " لَنْ يَدْخُلَ النَّارَ - إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى - وَاحِدٌ شَهِدَ بَدْراً أو الْحُدَيْبيَةَ ".

وعن مجاهدٍ أنهُ قالَ: (الْحُمَّى حَظُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ مِنَ النَّارِ). فعلَى هذا مَن حَمَّ مِن المسلمينَ فقد وَرَدَهَا، لأن الْحُمَّى مِن فَيْحِ جهنَّم.

" وعن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ عَادَ مَرِيْضاً مِنْ وَعَكٍ كَانَ بهِ، فَقَالَ لَهُ: " أبْشِرْ؛ إنَّ اللهَ يَقُولُ: هِيَ نَارِي أُسَلِّطُهَا عَلَى عَبْدِي الْمُؤْمِنِ لِتَكُونَ حَظَّهُ مِنَ النَّار " ".

قال الزجَّاجُ: (وَالْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ عَلَى أنَّهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَوْلُهُ تَعَالَى:إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا ٱشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } [الأنبياء: 101-102]) وهذهِ حُجَّةٌ لا معارضَ لَها.

قَوْلُهُ تَعَالَى: { كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً }؛ الْحَتْمُ: القطعُ بالأمرِ، والمقضيُّ هو الذي قَضَى بأنه يكونُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: { ثُمَّ نُنَجِّي ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ }؛ أي الذينَ اتَّقوا الشركَ وصدَّقوا، { وَّنَذَرُ ٱلظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً }؛ أي وَنَذرُ المشركينَ فيها جِثِيّاً على الرُّكب.