الرئيسية - التفاسير


* تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } * { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }

قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ }؛ أي يَفْنَى ولا يبقَى، { وَمَا عِندَ ٱللَّهِ }؛ من الثواب في الآخرةِ على الوفاء، { بَاقٍ } ، هو خيرٌ لكم مما عندَكم يدومُ ويبقى. قَوْلُهُ تَعَالَى: { وَلَنَجْزِيَنَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُوۤاْ }؛ قرأ ابنُ كثيرٍ وعاصم بالنُّون، وقرأ الباقون بالياءِ، ومعناهُ: الذين صَبَروا على الوفاءِ وعلى الطاعةِ، { أَجْرَهُمْ }؛ بالطاعاتِ، { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }؛ دون إسرَارِها، ويعفُو عن سيِّئاتِها.

قال ابنُ عبَّاس: " (وَذلِكَ أنَّ رَجُلاً مِنْ حَضْرَمَوْتَ يُقَالُ لَهُ عِيدَانُ بْنُ الأَشْوَعِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ الأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ جَاوَرَنِي فِي أرْضِي فَاقْتَطَعَهَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: " لِيَشْهَدْ لَكَ أحْدٌ " قَالَ: إنَّ الْقَوْمَ كُلَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنِّي صَادِقٌ، وَلَكِنَّهُ أكْرَمُ عَلَيْهِمْ مِنِّي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِلأَشْعَثِ: " مَا يَقُولُ صَاحِبُكَ؟ " قَالَ: الْبَاطِلَ وَالْكَذِبَ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " أتَحْلِفُ؟ " قَالَ: نَعَمْ، فَهَمَّ بالْحَلْفِ.

فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ: { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً... } إلَى آخِرِ الآيَتَيْنِ. فَقَرَأهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَشْعَثِ فَقَالَ: أمَّا مَا عِنْدِي فَيَنْفَذُ، وَأمَّا مَا بصَاحِبي فَيُجْزَى بأَحْسَنَ مَا كَانَ يَعْمَلُ، اللَّهُمَّ إنَّهُ صَادِقٌ فِي مَا قَالَ، لَقَدِ اقْتَطَعْتُ أرْضَهُ، وَاللهِ مَا أدْري كَمْ هِيَ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مَا شَاءَ مِنْ أرْضِي وَمِثْلَهَا مَعَهَا بمَا أكَلْتُ مِنْ ثَمَرِهَا " فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ بَعْدَ ذلِكَ فِي الأَشْعَثِ:

قَوْلُهُ تَعَالَى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ }؛ أي مَن عَمِلَ صَالحاً فيما بينه وبين ربهِ وأقرَّ بالحقِّ وهو مع ذلك مؤمنٌ { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، قِيْلَ: المرادُ بها القَنَاعَةُ بما يُؤتَى من الرِّزق الحلالِ، كما رُوي عن وهب بن مُنبه أنه قالَ: (الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ هِيَ الْقَنَاعَةُ بمَا رُزقَ).

وَقِيْلَ: هي أنْ يكون صدرهُ مُنفَرِجاً بما يعتقدهُ من دلائلِ الله تعالى، وبما يعرفهُ من وجوب مفارقةِ المعاصي، فيصيرُ قليلَ الْهَمِّ في أمورِ دنياهُ. وَقِيْلَ: الحياة الطيِّبة الجنةُ؛ لأنه لم يَطِبْ لأحدٍ حياةً إلاّ فيها.