الرئيسية - التفاسير


* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } * { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً }

{ لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ } كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة؛ أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون ورُوي أنه أتاه ملك في النوم فقال له: { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ } الآية: فأخبر الناس برؤياه: ذلك، فظنوا أن ذلك يكون في ذلك العام، فلما صده المشركون عن العمرة عام الحديبية قال المنافقون: أين الرؤيا، ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك، فأنزل الله تعالى: { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ } أي تلك الرؤيا صادقة، وسيخرج تأويلها بعد ذلك، فاطمأنت قلوب المؤمنين وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، هو وأصحابه فدخلوا مكة واعتمروا، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام، وظهر صدق رؤياه وتلك عُمرة القضية [القضاء] ثم فتح مكة بعد ذلك، ثم حج هو وأصحابه، وصدق في هذا الموضع يتعدى إلى مفعولين، وبالحق يتعلق بصدق، أو بالرؤيا على أن يكون حالاً منها { إِن شَآءَ ٱللَّهُ } لما كان الاستثناء بمشيئة الله يقتضي الشك في الأمر، وذلك محال على الله، اختلف في هذا الاستثناء على خمسة أقوال: الأول أنه استثناء قاله الملك الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فحكى الله مقالته كما وقعت والثاني: أنه تأديب من الله لعباده ليقولوا إن شاء الله في كل أمر مستقبل، والثالث أنه استثناء بالنظر إلى كل إنسان على حدته؛ لأنه يمكن أن يتم له الأمر أو يموت، أو يمرض فلا يتم له، والرابع أن الاستثناء راجع إلى قوله آمنين لا لدخول المسجد، والخامس أن إن شاء الله بمعنى إذا شاء الله { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } الحلق والتقصير من سنة الحج والعمرة، والحلق أفضل من التقصير، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله المحلقين ثلاثاً ثم قال في المرة الأخيرة والمقصرين " { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدّة، فإنه لما انعقد الصلح، وارتفعت الحرب ورغب الناس في الإسلام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية في ألف وخمسمائة، وقيل ألف وأربعمائة وغزا غزوة الفتح بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } يعني فتح خيبر، وقيل بيعة الرضوان وقيل صلح الحديبية، وهذا هو الأصح " لأن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتح هو يا رسول الله؟ قال: نعم " وقيل: هو فتح مكة وهذا ضعيف، لأن معنى قوله: { مِن دُونِ ذَلِكَ } قبل دخول المسجد الحرام، وإنما كان فتح مكة بعد ذلك، فإن الحديبية كانت عام ستة من الهجرة وعمرة القضية عام سبعة، وفتح مكة عام ثمانية { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } ذكره في براءة [33] { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } أي شاهداً بأن محمداً رسول الله، أو شاهداً بإظهار دينه.