الرئيسية - التفاسير


* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } * { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ }

{ فَٱسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } ولا تقتضي هذه القصة على هذه الرواية أن داود عليه السلام وقع فيما لا يجوز شرعاً، وإنما عوتب على أمر جائز، كان ينبغي له أن يتنزه عنه لعلوّ مرتبته ومتانة دينه، فإنه قد يعاتب الفضلاء على ما لا يعاتب عليه غيرهم، كما قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وأيضاً فإنه كان له تسع وتسعون امرأة، فكان غنياً عن هذه المرأة فوقع العتاب على الاستكثار من النساء، وإن كان جائزاً، ورُوي هذا الخبر على وجه آخر، وهو أن داود انفرد يوماً في محرابه للتعبد، فدخل عليه طائر من كوة فوقع بين يديه فأعجبه، فمد يده ليأخذه فطار على الكوة فصعد داود ليأخذه، فرأى من الكوة امراة تغتسل عريانة فأعجبته، ثم انصرف فسأل عنها فأخبر أنها امرأة رجل من جنده، وأنه خرج للجهاد مع الجند، فكتب داود إلى أمير تلك الحرب أن يقدم ذلك الرجل يقاتل عند التابوت، وهو موضع قل ما تخلص أحد منه، فقدم ذلك الرجل فقاتل حتى قتل شهيداً، فتزوج داود امرأته فعوتب على تعريضه ذلك الرجل للقتل، وتزوجه امرأته بعده مع أنه كان له تسع وتسعون امرأة سواها، وقيل: إن داود همَّ بذلك كله ولم يفعله، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك، ورُوي أن السبب فيما جرى له مثل ذلك أنه أعجب بعلمه، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف الفتنة على نفسه ففتن بتلك القصة، ورُوي أيضاً أن السبب في ذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والتزم أن يبتلى كما ابتلوا فابتلاه الله بما جرى له في تلك القصة { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ } سؤال مصدر مضاف إلى المفعول، وإنما تعدى بإلى لأنه تضمن معنى الإضافة كأنه قال: بسؤال نعجتك مضافة أو مضمومة إلى نعاجه، فإن قيل: كيف قال له داود: { لَقَدْ ظَلَمَكَ } قبل أن يثبت عنده ذلك؟ فالجواب أنه رُوي أن الآخر اعترف بذلك وحذف ذكر اعترافه اختصاراً، ويحتمل أن يكون قوله: لقد ظلمك على تقدير صحة قوله، وقد قيل: إن قوله لأحد الخصمين: لقد ظلمك قبل أن يسمع حجة الآخر كانت خطيئته التي استغفر منها وأناب { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلْخُلَطَآءِ لَيَبْغِيۤ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ } الخلطاء هم الشركاء في الأموال، ولكن الخلطة أعم من الشركة، ألا ترى أن الخلطة في المواشي ليست بشركة في رقابها، وقصد داود بهذا الكلام الوعظ للخصم الذي بغى، والتسلية بالتأسي للخصم الذي بُغيَ عليه { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } ما زائدة للتأكيد.

{ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ظن هنا بمعنى شعر بالأمر، وقيل: بمعنى أيقن، وفتناه معناه اختبرناه { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } معنى خرَّ: ألقى بنفسه إلى الأرض، وإنما حقيقة ذلك في السجود، فقيل: إن الركوع هنا بمعنى السجود، وقيل: خرَّ من ركوعه ساجداً بعد أن ركع، ومعنى أناب: تاب، ورُوي أنه بقي ساجداً أربعين يوماً يبكي حتى نبت البقل من دموعه، وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك خلافاً للشافعي، إلا أنه اختلف في مذهب مالك هل يسجد عند قوله: { وَأَنَابَ } ، أو عند قوله: { لَزُلْفَىٰ.. مَـآبٍ } { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَـآبٍ } الزلفى القُربة والمكانة الرفيعة، والمآب المرجع في الآخرة.