الرئيسية - التفاسير


* تفسير التسهيل لعلوم التنزيل / ابن جزي الغرناطي (ت 741 هـ) مصنف و مدقق


{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } * { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } * { قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ }

{ هُنَالِكَ } إشارة إلى مكان، وقد يستعمل في الزمان، وهو الأظهر هنا أي: لما رأى زكريا كرامة الله تعالى لمريم سأل مِنَ اللِه الولد { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } أنث رعاية للجماعة، وقرئ فناداه بالألف على التذكير، وقيل: الذي ناداه جبريل وحده وإنما قيل الملائكة: لقولهم: فلان يركب الخيل، أي جنس الخيل وإن كان فرساً واحداً { بِيَحْيَـىٰ } اسم سماه الله تعالى به قبل أن يولد، وهو اسم بالعبرانية صادف اشتقاقاً وبناءً في العربية، وهو لا ينصرف، فإن كان في الإعراب أعجمياً ففيه التعريف والعجمة، وإن كان عربياً فالتعريف ووزن الفعل { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } أي مصدقاً بعيسى عليه السلام مؤمناً به، وسمي عيسى كلمة الله، لأنه لم يوجد إلاّ بكلمة الله وحدها وهي قوله: كن، لا بسبب آخر وهو الوالد كسائر بني آدم { وَسَيِّداً } السيد، الذي يسود قومه؛ أي يفوقهم في الشرف والفضل { وَحَصُوراً } أي لا يأتي النساء فقيل: خلقه الله كذلك، وقيل: كان يمسك نفسه، وقيل: الحصور الذي لا يأتي الذنوب { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٌ } تعجُّب استبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته، وعقم امرأته، ويقال: كان له تسع وتسعون سنة، ولامرأته ثمان وتسعون سنة، فاستبعد ذلك في العادة، مع علمه بقدرة الله تعالى على ذلك، فسأله مع علمه بقدرة الله، واستبعده لأنه نادر في العادة، وقيل: سأله وهو شاب، وأجيب وهو شيخ، ولذلك استبعده { كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } أي مثل هذه الفعلة العجيبة، يفعل الله ما يشاء؛ فالكاف لتشبيه أفعال الله العجيبة بهذه الفعلية، والإشارة بذلك إلى هبة الولد لزكريا، واسم الله مرفوع بالابتداء، أو كذلك خبره فيجب وصله معه، وقيل: الخبر: يفعل الله ما يشاء، ويحتمل كذلك على هذا وجهين: أحدهما: أن يكون في موضع الحال من فاعل يفعل، والآخر: أن يكون في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره: الأمر كذلك، أو أنتما كذلك، وعلى هذا يوقف على كذلك والأول أرجح لاتصال الكلام، وارتباط قوله: { يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } مع ما قبله، ولأن له نظائر كثيرة في القرآن منها قوله:وَكَذٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ } [هود: 102] { ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً } أي علامة على حمل المرأة { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ } أي علامتك أن لا تقدر على كلام الناس { ثَلَٰثَةَ أَيَّامٍ } بمنع لسانه عن ذلك مع إبقاء الكلام بذكر الله، ولذلك قال: { وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً } وإنما حبس لسانه عن الكلام تلك المدة ليخلص فيها لذكر الله شكراً على استجابة دعائه ولا يشغل لسانه بغير الشكر والذكر { إِلاَّ رَمْزاً } إشارة باليد أو بالرأس أو غيرهما، فهو استثناء منقطع { بِٱلْعَشِيِّ } من زوال الشمس إلى غروبها، والإبكار من طلوع الفجر إلى الضحى.