الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

قوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ }: فيه أوجه، أحدهما: أنه مرفوعٌ علىٰ إضمارِ مبتدأ، أي: هم الذين. الثاني: أنه في محل رفع بالابتداء و " من المؤمنين " حالٌ مِن " المطَّوِّعين " ، و " في الصدقات " متعلق بـ " يَلْمِزون ". و { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ } نسقٌ على " المطَّوِّعين " أي: يَعيبون المياسير والفقراء.

وقال مكي: " والذين " خفضٌ عطفاً على " المؤمنين " ، ولا يَحْسُن عَطْفُه على " المطَّوِّعين " ، لأنه لم يتمَّ اسماً بعد، لأن " فيسخرون " عطف على " يَلْمِزُون " هكذا ذكره النحاس في " الإِعراب " له، وهو عندي وهمٌ منه ". قلت: الأمر فيه كما ذكر فإن " المطَّوِّعين " قد تَمَّ من غيرِ احتياجٍ لغيره.

وقوله: { فَيَسْخَرُونَ } نسقٌ على الصلة، وخبر المبتدأ الجملةُ من قوله: { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } ، هذا أظهرُ إعرابٍ قيل هنا. وقيل: { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ } نسقٌ علىٰ " الذين يَلْمزون " ، ذكره أبو البقاء. وهذا لا يجوزُ؛ لأنه يلزمُ الإِخبارُ عنهم، بقوله: { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } وهذا لا يكون إلا بأَنْ كان الذين لا يَجِدون منافقين، وأمَّا إذا كانوا مؤمنين كيف يَسْخر الله منهم؟ وقيل: { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ } نسقٌ على المؤمنين، قاله أبو البقاء. وقال الشيخ: " وهو بعيدٌ جداً " ، قلت: وَجْهُ بُعْدِ أنه يُفْهِمُ أن الذين لا يجدون ليسوا مؤمنين؛ لأنَّ أصلَ العطفِ الدلالةُ على المغايرة فكأنه قيل: يَلْمِزون المطَّوِّعين من هذين الصنفين: المؤمنين والذين لا يجدون، فيكون الذين لا يجدون مطَّوِّعين غيرَ مؤمنين.

وقال أبو البقاء: " في الصدقات " متعلق بـ " يَلْمِزون " ، ولا يتعلق بالمطَّوِّعين لئلا يُفْصَل بينهما بأجنبي " ، وهذا الردُّ فيه نظر، إذ قولُه: " من المؤمنين " حال، والحال ليست/ بأجنبي، وإنما يظهر في رَدِّ ذلك أن " يطَّوَّع " إنما يتعدى بالباء لا بـ " في " ، وكونُ " في " بمعنى الباء خلافُ الأصل.

وقيل: { فَيَسْحَرُونَ } خبرُ المبتدأ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما تضمَّنه المبتدأ من معنى الشرط، وفي هذا الوجهِ بُعْدٌ من حيث إنه يَقْرُب من كونِ الخبر في معنى المبتدأ، فإنَّ مَنْ عاب إنساناً وغَمَزَه علم أنه يسخر منه فيكون كقولهم: " سيد الجارية مالكها ".

الثالث: أن يكونَ محلُّه نصباً على الاشتغال بإضمار فعل يُفَسِّره { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ } مِنْ طريقِ المعنىٰ نحو: عاب الذين يَلْمِزون سخر الله منهم. الرابع: أَنْ ينتصبَ على الشتم. الخامس: أن يكونَ مجروراً بدلاً من الضمير في " سِرَّهم ونجواهم ".

وقرىء " يُلْمزون " بضم الميم، وقد تقدَّم أنها لغة.

وقوله: { سَخِرَ ٱللَّهُ } يُحْتمل أن يكونَ خبراً محضاً، وأن يكون دعاءً. وقرأ الجمهور " جُهدهم " بضم الجيم. وقرأ ابن هرمز وجماعة " جَهْدهم " بالفتح. فقيل: لغتان بمعنى واحد. وقيل: المفتوحُ المشقَّة، والمضمومُ الطاقةُ قاله القتبي. وقيل: المضمومُ شيءٌ قليلٌ يُعاشُ به، والمفتوحُ العملُ.