الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ٱنفِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ٱثَّاقَلْتُمْ إِلَى ٱلأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا مِنَ ٱلآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ }

قوله تعالى: { ٱثَّاقَلْتُمْ }: أصلُه تثاقلتم، فلمَّا أريد الإِدغامُ سَكَنت الياءُ فاجتُلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم ذلك فيفَٱدَّارَأْتُمْ } [البقرة: 72]، والأصل: تدارأتم. وقرأ الأعمش " تثاقلتم " بهذا الأصل، و " ما " في قوله " مالكم " استفهامية وفيها معنى الإِنكار. وقيل: فاعله المحذوف هو الرسول.

و " اثَّاقلتم " ماضي اللفظ مضارع المعنى أي: يتثاقلون، وهو في موضع الحال، وهو عاملٌ في الظرف أي: مالكم متثاقلين وقت القول. وقال أبو البقاء: " اثَّاقلتم: ماض بمعنى المضارع أي: مالكم تتثاقلون وهو في موضع نصب أي: أيُّ شيء لكم في التثاقل، أو في موضع جر على رأي الخليل. وقيل: هو في موضع حال " قال الشيخ: " وهذا ليس بجيدٍ، لأنه يلزمُ منه حذفُ " أَنْ " ، لأنه لا يَنْسِبُك مصدرٌ إلا من حرفٍ مصدري والفعل، وحَذْفُ " أَنْ " في نحو هذا قليلٌ جداً، أو ضرورة، وإذا كان التقديرُ: " في التثاقل " فلا يمكن عملُه في " إذا " ، لأنَّ معمول المصدرِ الموصول لا يتقدَّم عليه، فيكون الناصب لـ " إذا " والمتعلَّق به " في التثاقل " ما تعلَّق به " لكم " الواقعُ خبراً لـ " ما ".

وقرىء " أَثَّاقَلْتم " بالاستفهام الذي معناه الإِنكار، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يَعْمل في " إذا "؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله، فيكون العاملَ في هذا الظرف: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرَ في " لكم " ، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللفظ. والتقدير: ما تصنعون إذا قيل لكم. وإليه نحا الزمخشري. والظاهر أن يُقَدَّر: ما لكم تثاقلون إذا قيل، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى.

وقوله: { إِلَى ٱلأَرْضِ } ضُمِّنَ معنى المَيْل والإِخلاد. وقوله: " من الآخرة " تظاهَرَتْ أقوالُ المُعْربين والمفسرين على أنَّ " مِنْ " بمعنى بدل كقوله:لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } [الزخرف: 60] أي: بدلكم، ومثلُه قولُ الآخر:
2485 ـ جاريةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقا   ولم تَذُقْ من البُقول الفُسْتُقا
وقول الآخر:
2486 ـ فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمَ شَرْبةً   مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ
/ إلا أنَّ أكثرَ النحويين لم يُثْبتوا لها هذا المعنى، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك والتقديرُ هنا: اعتَصَمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياة وكذلك باقيها. وقال أبو البقاء: " مِن الآخرة في موضع الحال أي: بدلاً من الآخرة " ، فقدَّر المتعلَّقَ خاصاً، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى.

قوله: { فِي ٱلآخِرَةِ } متعلقٌ بمحذوفٍ من حيث المعنى تقديره: فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة. فـ " محسوباً " حالٌ مِنْ " متاع ". وقال الحوفي: " إنه متعلق بـ قليل وهو خبر المبتدأ ". قال: " وجاز أن يتقدَّمَ الظرفُ على عامله المقرونِ بـ " إلا " لأنَّ الظروفَ تعمل فيها روائحُ الأفعال. ولو قلت: " ما زيدٌ عمراً إلا يَضْرب " لم يَجُزْ ".