الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ }: قرأ نافع وابن عامر: " الذين اتخذوا " بغير واو، والباقون بواو العطف. فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقة مصاحفِهم، فإنَّ مصاحف المدينة والشام حُذفت منها الواوُ وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم. و " الذين " على قراءة مَنْ أسقط الواوَ قبلها فيها أوجه، أحدها: أنها بدلٌ مِنْ " آخرون " قبلها. وفيه نظر لأن هؤلاء الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً، لا يُقال في حَقِّهم إنهم مُرْجَوْن لأمر الله، لأنه يُروى في التفسير أنهم من كبار المنافقين كأبي عامر الراهب.

الثاني: أنه مبتدأ وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ أحدها: أنه " أفَمَنْ أَسَّسَ بنيانَه " والعائد محذوفٌ تقديره: بنيانَه منهم. الثاني: أنه " لا يزال بنيانُهم " قاله النحاس والحوفي، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل. الثالث: أنه " لا تقمْ فيه " قاله الكسائي. قال ابن عطية: " ويتجه بإضمارٍ: إمَّا في أول الآية، وإمَّا في آخرها بتقدير: لا تقم في مسجدهم ". الرابع: أن الخبرَ محذوفٌ تقديرُه: معذَّبون ونحوه، قاله المهدوي.

الوجه الثالث أنه منصوبٌ على الاختصاص. وسيأتي هذا الوجهُ أيضاً في قراءة الواو.

وأمَّا قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم، إلا أنه يمتنع وجهُ البدل مِنْ " آخرون " لأجل العاطف. وقال الزمخشري: " فإن قلت: " والذين اتخذوا " ما محلُّه من الإِعراب؟ قلت: محلُّه النصب على الاختصاص، كقوله تعالى:وَٱلْمُقِيمِينَ ٱلصَّلاَةَ } [النساء: 162]. وقيل: هو مبتدأ وخبرُه محذوفٌ معناه: فيمَنْ وَصَفْنا الذين اتخذوا، كقوله:وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ } [المائدة: 38]، قلت: يريد على مذهب سيبويه فإن تقديره: فيما يُتْلى عليكم السارق، فحذف الخبرَ وأبقى المبتدأ كهذه الآية.

قوله: { ضِرَاراً } فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها:/ أنه مفعولٌ من أجله أي: مُضَارَّةً لإِخوانهم. الثاني: أنه مفعولٌ ثان لـ " اتَّخذ " قاله أبو البقاء. الثالث: أنه مصدر في موضع الحال من فاعل " اتخذوا " أي: اتخذوه مضارِّين لإِخوانهم، ويجوز أن ينتصبَ على المصدرية أي: يَضُرُّون بذلك غيرهم ضِراراً، ومتعلَّقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ أي: ضِراراً لإِخوانهم وكفراً بالله.

قوله: { مِن قَبْلُ } فيه وجهان، أحدهما ـ وهو الذي لم يذكر الزمخشري غيره ـ أنه متعلقٌ بقوله: " اتخذوا " أي: اتخذوا مسجداً مِنْ قبل أن ينافقَ هؤلاء. والثاني: أنه متعلقٌ بـ " حارب " أي: حارب مِنْ قبل اتِّخاذ هذا المسجد.

قوله: { وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا } لَيَحْلِفُنَّ: جوابُ قسم مقدر أي: والله ليحلِفُنَّ. وقوله: " إن أَرَدْنا " جوابٌ لقولِه: " ليحلِفُنَّ " فوقع جوابُ القسم المقدر فعلَ قسم مجابٍ بقوله: " إنْ أَرَدْنا ". " إنْ " نافية ولذلك وقع بعدها " إلا ". و " الحُسْنىٰ " صفةً لموصوفٍ محذوفٍ أي: إلا الخصلة الحسنى أو إلا الإِرادةَ الحسنى. وقال الزمخشري: " ما أَرَدْنا ببناء هذا المسجد إلا الخَصْلة الحسنى، أو إلا لإِردة الحسنى وهي الصلاة ". قال الشيخ: " كأنه في قوله: " إلا الخصلة الحُسْنى " جعله مفعولاً، وفي قوله: " أو لإِرادة الحسنى " جعله علةً فكأنه ضَمَّن " أراد " معنى قَصَد أي: ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلا لإِرادة الحسنى " قال: " وهذا وجهٌ متكلف ".