الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُرْدِفِينَ }

قوله تعالى: { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ }: فيه خمسة أوجه، أحدها: أنه منصوب باذكر مضمراً، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً أي: إنه مقتطعٌ عما قبله. الثاني: أنه منصوب بيحقُّ أي: يحقُّ الحق وقت استغاثتكم. وهو قول ابن جرير. وهو غلط، لأنَّ " ليحقَّ " مستقبل لأنه منصوب بإضمار " أَنْ " ، و " إذ " ظرف لما مضى، فكيف يعمل المستقبل في الماضي؟ الثالث: أنه بدلٌ من " إذ " الأولى، قاله الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء. وكان قد قَدَّموا أن العامل في " إذا " الأولى " اذكر " مقدراً. الرابع: أنه منصوب بـ " يعدكم " قاله الحوفي وقَبْلَه الطبري. الخامس: أنه منصوب بقوله " تَوَدُّون " قاله أبو البقاء. وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصل.

و " استغاث " يتعدى بنفسه وبالباء. ولم يجئ في القرآن إلا متعدِّياً بنفسه حتى نقم ابن مالك على النحويين قولهم المستغاث له، أو به، والمستغاث من أجله. وقد أنشدوا على تَعَدِّيه بالحرف قول الشاعر:
2383ـ حتى استغاثَ بماءٍ لا رِشَاءَ له   من الأباطحِ في حافَاتِه البُرَكُ
مُكَلَّلٌ بأصول النَّبْت تَنْسُجه   ريحٌ خَرِيقٌ لضاحي مائِه حُبُكُ
كما استغاث بِسَيْءٍ فَزُّغَيْطَلَةٍ   خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
فدلَّ هذا على أنه يتعدى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره.

قوله: { أَنِّي } العامة على فتح الهمزة بتقدير حذف حرف الجر أي: فاستجاب بأني. وقرأ عيسى بن عمر ـ ويُروى عن أبي عمرو أيضاً ـ " إني " بكسرها. وفيها مذهبان: مذهَب البصريين أنه على إضمار القول أي: فقال إني ممدُّكم. ومذهب الكوفيين أنها محكيَّةٌ باستجاب إجراءً له مُجْرى القولِ لأنه بمعناه.

قوله: { بِأَلْفٍ } العامَّة على التوحيد. وقرأ الجحدري: " بآلُفٍ " بزنة أفْلُس. وعنه أيضاً وعن السديّ بزنة أَحْمال. وفي الجمع بين هاتين القراءتين وقراءة الجمهور: أن تُحْمَلَ قراءةُ الجمهور على أن المراد بالأَلْفِ هم الوجوه، وباقيهم كالأتباع لهم، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ونصَّ عليهم في هاتين القراءتين. أو تُحْمل الألْف على مَنْ قاتَلَ من الملائكة دون مَنْ لم يقاتل فلا تنافِيَ حينئذٍ بين القراءات.

قوله: { مُرْدِفِينَ } قرأ نافع ـ ويُروى عن قنبل أيضاً ـ " مُرْدَفين " بفتح الدال والباقون بكسرها. وهما واضحتان لأنه يُروى في التفسير أنه كان وراء كل مَلِكٍ مَلَكٌ رديفاً له. فقراءة الفتح تُشْعر بأن غيرهم أردفهم لركوبهم خلفهم، وقراءة الكسر تُشْعر بأن الراكبَ خلفَ صاحبهِ قد أَرْدَفَه، فصَحَّ التعبيرُ باسم الفاعل تارةً واسمِ المفعول أخرى. وجَعَلَ أبو البقاء مفعولَ " مُرْدِفين " ـ يعني بالكسر ـ محذوفاً أي: مُرْدِفين أمثالهم. وجَوَّز أن يكون معنى الإِرداف المجيءَ بعد الأوائل أي: جُعِلوا رِدْفاً للأوائل.

السابقالتالي
2 3 4