الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }

قوله تعالى: { إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً }: أي: ما كان شيءٌ مِمَّا يَعُدُّونه صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلين وهما المُكاء والتَّصْدية، أي: إن كان لهم صلاةٌ فلم تكن إلا هذين كقول الشاعر:
2410ـ وما كنت أخشى أن يكونَ عطاؤُه   أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرا
فأقام القيود والسِّياط مُقام العطاء.

والمُكاء: مصدر مَكا يمكو، أي صَفَر بين أصابعه أو بين كَفَّيْه، قال الأصمعي: " قلت لمسجع بن نبهان: ما تمكو فريصتُه؟ فَشَبَك بين أصابعه وجَعَلها على فِيه ونفخ فيها. قلت: يريد قول عنترة:
2411ـ وحَليلِ غانيةٍ تركتُ مُجَدَّلاً   تَمْكُو فريصتُه كشِدْق الأَعْلَمِ
يقال: مَكَتِ الفَريصة، أي: صَوَّتَتَ بالدم. ومكت اسْتُ الدابة، أي: نفخت بالريح. وقال مجاهد: المُكَّاء: صفير على لحنِ طائرٍ أبيضَ يكون بالحجاز قال الشاعر:
2412ـ إذا غرَّد المُكَّاء في غير روضةٍ   فويلٌ لأهل الشَّاءِ والحُمُرات
المُكَّاء فُعَّال بناء مبالغة. قال أبو عبيدة: " يقال مكا يمكو مُكُوَّاً ومُكاءً: صَفَر، والمُكاء بالضم كالبُكاء والصُّراخ. قيل: ولم يشذَّ من أسماء الأصوات بالكسرِ إلا الغِناء والنِّداء.

والتَّصْدِية فيها قولان أحدهما: أنها من الصَّدى وهو ما يُسْمع مِنْ رَجْع الصوت في الأمكنة الخالية الصُّلبة يقال منه: صَدِي يَصْدَى تَصْدِيَة، والمراد بها هنا ما يُسْمع من صوت التصفيق بإحدى اليدين على الأخرى. وفي التفسير: أن المشركين كانوا إذا سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي ويتلو القرآن صفَّقوا بأيديهم وصَفَروا بأفواههم ليُشْغِلوا عنه مَنْ يَسْمَعُه ويَخْلطوا عليه قراءته. وهذا مناسبٌ لقوله:لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت: 26]/. وقيل: هي مأخوذةٌ من التَّصْدِدَة وهي الضجيج والصِّياحُ والتصفيق، فأُبْدِلَت إحدى الدالين ياءً تخفيفاً، ويدلُّ عليه قولُه تعالى:إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } [الزخرف: 57] في قراءة مَنْ كسر الصاد أي: يضجُّون ويَلْغَطون. وهذا قول أبي عبيدة. وقد ردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي، وقال: " إنما هو مِنْ الصَّدْي فكيف يُجعل من المضعَّف "؟ وقد ردَّ أبو علي على أبي جعفر رَدَّه وقال: " قد ثبت أنَّ يَصُدُّون مِنَ نحو الصوت فأخْذُه منه، وتَصْدِية تَفْعِلَة " ، ثم ذكر كلاماً كثيراً. والثاني: أنها من الصدِّ وهو المنعُ والأصل: تَصْدِدَة بدالين أيضاً، فأُبْدِلت ثانيتهما ياءً. ويؤيِّد هذا قراءةُ مَنْ قرأ " يَصُدُّون " بالضم أي: يمنعون.

وقرأ العامَّةُ " صلاتُهم " رفعاً، " مُكاءً " نصباً، وأبان بن تغلب والأعمش وعاصم بخلافٍ عنهما " وما كان صلاتَهم " نصباً، " مكاءٌ " رفعاً. وخطَّأ الفارسي هذه القراءةَ وقال: " لا يجوز أن يُخْبر عن النكرةِ بالمعرفةِ إلا في ضرورة كقول حسان:
2413ـ كأنَّ سَبيئةً مِنْ بيت رَأْسٍ   يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ
وخرَّجها أبو الفتح على أن المُكاء والتصدية اسما جنس، يعني أنهما مصدران قال: " واسم الجنس تعريفُه وتنكيره متقاربان فلِمَ يُقال ثانيهما جُعل اسماً والآخر خبراً؟ وهذا يَقْرُب من المعرَّف بأل الجنسية حيث وُصِف بالجملة، كما يُوصف به النكرة كقوله تعالى:وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ } [يس: 37]، وقولِ الآخر:
2414ـ ولقد مَرَرْتُ على اللئيم يَسُبُّني   فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيني
وقال بعضهم: " وقد قرأ أبو عمرو " إلا مُكاً " بالقصر والتنوين، وهذا كما قالوا: بكاء وبُكى بالمد والقصر. وقال الشاعر فجمع بين اللغتين:
2415ـ بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها   وما يُغْني البكاءُ ولا العويلُ