الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ }

قوله تعالى: { إِذْ يُوحِي }: فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ ثالث من قولهوَإِذْ يَعِدُكُمُ } [الأنفال: 7]. والثاني: أن ينتصب بقوله " ويثبِّتَ " ، قالهما الزمخشري، ولم يَبْنِ ذلك على عود الضمير. وأمَّا ابنُ عطية فبناه على عَوْد الضمير في قوله " به " ، فقال: " العاملُ في " إذ " العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها، ولو قدَّرْناه قريباً لكان قوله " ويُثَبِّتَ " على تأويل عَوْده على الرَّبط، وأمَّا على تأويل عَوْده على الماء فَيَقْلَق أن يعمل " ويثبت " في إذ " ، وإنما قَلِق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به مِنْ تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النعاس، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النعاس والإِيحاءُ كانا وقتَ القتال.

قوله: { أَنِّي مَعَكُمْ } مفعول بـ " يوحي " ، أي: يوحي كوني معكم بالغلبة والنصر. وقرأ عيسى بن عمر ـ بخلافٍ عنه ـ " إني معكم " بكسرِ الهمزة. وفيه وجهان، أحدهما: أن ذلك على إِضمارِ القول، وهو مذهب البصريين. والثاني: إجراء " يوحي " مُجْرى القول لأنه بمعناه، وهو مذهب الكوفيين. قوله: { فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ } فيه أوجه، أحدها: أن " فوق " باقيةٌ على ظرفيتها، والمفعولُ محذوفٌ أي: فاضربوهم فوق الأعناق، عَلَّمَهم كيف يضربونهم. والثاني: أن " فوق " مفعولٌ به على الاتِّساع لأنه عبارةٌ عن الرأس كأنه قيل: فاضربوا رؤوسَهم. وهذا ليس بجيدٍ لأنه لا يَتَصَرَّف. وقد زعم بعضُهم أنه يتصرَّف وأنك تقول: فوقُك رأسُك برفع " فوقك " ، وهو ظاهرُ قول الزمخشري فإنه قال: " فوق الأعناق: أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح التي هي مفاصل ". الثالث: ـ وهو قول أبي عبيدة ـ أنها بمعنى على أي: على الأعناق، ويكون المفعول محذوفاً تقديره: فاضربوهم على الأعناق، وهو قريبٌ من الأول. الرابع: قال ابن قتيبة: " هي بمعنى دون ". قال ابن عطية: " وهذا خطأ بَيِّنٌ وغلطٌ فاحش، وإنما دخل عليه اللَّبْس من قوله:بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة: 26]، أي: فما دونها، وليست " فوق " هنا بمعنى دون، وإنما المرادُ: فما فوقها في القلة والصغر. الخامس: أنها زائدة أي اضربوا الأعناق وهو قول أبي الحسن، وهذا عند الجمهورِ خطأ، لأنَّ زيادةَ الأسماءِ لا تجوز.

قوله: { مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يجوز أن يتعلَّق " منهم " بالأمر قبله أي: ابْتَدِئوا الضرب من هذه الأماكن والأعضاء من أعاليهم إلى أسافِلهم. ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال مِنْ " كلِّ بنان "؛ لأنه في الأصل يجوز أن يكون صفةً له لو تأخَّر قال أبو البقاء: " ويَضْعُف أن يكون حالاً من " بنان " إذ فيه تقديمُ حالِ المضاف إليه على المضاف " فكأن المعنى: اضربوهم كيف ما كان.

السابقالتالي
2