الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ }

قوله: { لاَ أُقْسِمُ }: العامَّةُ على " لا " النافيةِ. واختلفوا حينئذٍ فيها على أوجهٍ، أحدُها: أنها نافيةٌ لكلامٍ متقدِّمٍ، كأنَّ الكفارَ ذَكروا شيئاً. فقيل لهم: لا، ثم ابتدأ اللَّهُ تعالى قَسَماً. الثاني: أنها مزيدةٌ. قال الزمخشري: " وقالوا إنها مزيدةٌ، مِثْلُها في:لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ ٱلْكِتَابِ } [الحديد: 29] وفي قولِه:
4402ـ في بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ   
واعترضوا عليه: بأنها إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أولِه. وأجابوا: بأنَّ القرآنَ في حُكْمِ سورةٍ واحدةٍ متصلٍ بعضُه ببعضٍ. والاعتراضُ صحيحٌ؛ لأنها لم تقَعْ مزيدةً إلاَّ في وسط الكلامِ، لكن الجوابَ غيرُ سديدٍ. ألا ترى إلى امرىء القيسِ كيف زادَها في مستهلِّ قصيدتِه؟ قلت: يعني قولَه:
4403ـ لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ   يِ..........................
كما سيأتي، وهذا الوجهُ والاعتراضُ عليه والجوابُ نقله مكي وغيرُه. الوجه الثالث: قال الزمخشري: " إدخالُ " " لا " النافيةِ على فعلِ القسمِ مستفيضٌ في كلامِهم وأشعارِهم. قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ   يِ لا يَدَّعِي القومُ أنِّي أفِرّْ
وقال غُوَيَّةُ بن سُلْميٍّ:
4404ـ ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتمالِ   لِتَحْزُنَني فلابِك ما أُبالي
وفائدتُها توكيدُ القسم " ثم قال ـ بعد أَنْ حكى وجهَ الزيادةِ والاعتراضَ والجوابَ كما تقدَّمَ ـ " والوَجهُ أَنْ يُقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يُقْسِمُ بالشيءِ إلاَّ إعظاماً له يَدُلَّكَ عليه قولُه تعالى:فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [الواقعة: 75-76] فكأنه بإدخالِ حرفِ النفي يقول: إنَّ إعظامي له بإقسامي به كلا إعظامٍ، يعني أنه يَسْتَأْهِلُ فوق ذلك. وقيل: " إنَّ " لا " نفيٌ لكلامٍ وَرَدَ قبل ذلك ". انتهى. فقولُه: " والوجهُ أَنْ يُقال " إلى قولِه: " يعني أنه يستأهِلُ فوق ذلك " تقريرٌ لقولِه: " إدخالُ " لا " النافيةِ على فعلِ/ القسمِ مستفيضٌ " إلى آخره. وحاصلُ كلامِه يَرْجِعُ إلا أَنَّها نافيةٌ، وأنَّ النفيَ مُتَسَلِّطٌ على فعل القسمِ بالمعنى الذي شَرَحَه، وليس فيه مَنْعٌ لفظاً ولا معنىً ثم قال: فإن قلتَ: قولُه تعالى:فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [النساء: 65] والأبياتُ التي أَنْشَدْتُها المُقْسَمُ عليه فيها منفيٌّ، فهلا زَعَمْتَ أنَّ " لا " التي قبلَ القسمِ زِيْدَتْ موطئةً للنفيِ بعدَه ومؤكِّدةً له، وقَدَّرْتَ المقسم عليه المحذوفَ ههنا منفيَّاً، كقولِك: لا أُقْسم بيومِ القيامةِ لا تُتركون سُدى؟ قلت: لو قَصَروا الأمرَ على النفيِ دونَ الإِثباتِ لكان لهذا القول مَساغٌ، ولكنه لم يُقْصَرْ. ألا ترى كيف لُقِيَلاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [البلد: 1] بقولِه: { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } وكذلك قولُه:فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ ٱلنُّجُومِ } [الواقعة: 75] بقوله: { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وهذا من محاسنِ كلامِه فتأمَّلْه. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا النحوِ في سورة النساءِ، وفي آخر الواقعة، ولكنْ هنا مزيدُ هذه الفوائدِ.

السابقالتالي
2