الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً }

قوله: { إِلاَّ بَلاَغاً }: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنه استثناءٌ منقطعٌ. أي: لكنْ إنْ بَلَّغْتُ عن اللَّهِ رَحِمني؛ لأنَّ البلاغَ من الله لا يكونُ داخلاً تحت قولِه: { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } ، لأنه لا يكونُ مِنْ دونِ اللَّهِ، بل يكونُ من اللَّهِ وبإعانتِه وتوفيقِه. الثاني: أنه متصلٌ. وتأويلُه: أنَّ الإِجارةَ مستعارةٌ للبلاغِ، إذ هو سببُها، وسببُ رحمتِه تعالى، والمعنى: لن أجِدَ سبباً أميلُ إليه وأعتصمُ به، إلاَّ أَنْ أُبَلِّغَ وأُطيعَ، فيُجيرَني. وإذا كان متصلاً جاز نصبُه من وجهين، أحدهما: وهو الأرجح أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " مُلْتحداً "؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ. والثاني: أنه منصوبٌ على الاستثناءِ، وإلى البدليةِ ذهب أبو إسحاق. الثالث: أنه مستثنى مِنْ قولِه: { لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً } قال قتادة: أي لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ بلاغاً إليكم.

وقرَّره الزمخشريُّ فقال: " أي: لا أَمْلِكُ إلاَّ بلاغاً من اللَّهِ، و { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي } جملةٌ معترضةٌ اعترضَ بها لتأكيدِ نَفْيِ الاستطاعة ". قال الشيخ: " وفيه بُعْدٌ لطولِ الفَصْلِ بينهما ". قلت: وأين الطولُ وقد وقع الفَصْلُ بأكثرَ مِنْ هذا؟ وعلى هذا فالاستثناءُ منقطعٌ. الرابع: أنَّ الكلامَ ليس استثناءً بل شرطاً. والأصل: إنْ لا فأدغم فـ " إنْ " شرطيةٌ، وفعلُها محذوفٌ لدلالةِ مصدرِه والكلامِ الأولِ عليه، و " لا " نافيةٌ والتقدير: إن لا أُبَلِّغْ بلاغاً من اللَّهِ فلن يُجيرَني منه أحدٌ. وجَعَلوا هذا كقولِ الشاعر:
4360ـ فطَلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ   وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحُسامُ
أي: وإنْ لا تُطَلِّقْها يَعْلُ، حَذَفَ الشرطَ وأبقى الجوابَ. وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ من وجهَيْن، أحدهما: أنَّ حَذْفَ الشرطِ دونَ أداتِه قليلٌ جداً. والثاني: أنَّه حُذِفَ الجزآن معاً أعني الشرطَ والجزاءَ، فيكونُ كقولِه:
4361ـ قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ   كان فقيراً مُعْدَماً قالت: وإِنْ
أي: قالَتْ: وإنْ كان فقيراً فقد رَضِيْتُه. وقد يُقال: إنَّ الجوابَ إمَّا مذكورٌ عند من يرى جوازَ تقديمِه، وإمَّا في قوةِ المنطوق به لدلالةِ ما قبلَه عليه.

قوله: { مِّنَ ٱللَّهِ } فيه وجهان، أحدهما: أنَّ " مِنْ " بمعنى عَنْ؛ لأنَّ بَلِّغ يتعدَّى بها، ومنه قولُه عليه السلام: " ألا بَلِّغوا عني " والثاني: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لـ " بلاغ ". قال الزمخشري: " مِن " ليسَتْ صلةً للتبليغ، إنما هي بمنزلةِ " مِنْ " في قوله:بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ } [التوبة: 1] بمعنى: بلاغاً كائناً من الله ".

قوله: { وَرِسَالاَتِهِ } فيه وجهان، أحدُهما: أنها منصوبةٌ نَسَقاً على " بلاغاً " كأنه قيل: لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ التبليغَ والرسالاتِ، ولم يَقُلِ الزمخشريُّ غيرَه. والثاني: أنها مجرورةٌ نَسَقاً على الجلالةِ أي: إلاَّ بلاغاً/ عن اللَّهِ وعن رسالاتِه، كذا قَدَّره الشيخُ.

السابقالتالي
2