الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدِ ٱفْتَرَيْنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ٱللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ }

قوله تعالى: { إِنْ عُدْنَا }: شرطٌ جوابه محذوف عند الجمهور أي: فقد افترَيْنا، حُذِفَ لدلالةِ ما تقدَّم عليه، وعند أبي زيد والمبرد والكوفيين هو قولُه: " فقد افترَيْنا " ، وهو مردودٌ بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء. وقال أبو البقاء: " قد افترَيْنا بمعنى المستقبل لأنه لم يقع وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب " إنْ عُدْنا " وساغَ دخولُ " قد " هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراءَ عند العَوْد منزلةَ الواقع فَقَرنوه بقد، وكأنَّ المعنى: قد افترَيْنا الآن إن هَمَمْنا بالعَوْد ".

وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدهما: أنها استئنافُ إخبارٍ فيه معنى التعجب، قاله الزمخشري كأنه قيل: ما أَكْذَبَنا على الله إن عُدْنا في الكفر. والثاني: أنها جوابُ قسمٍ محذوف حُذِفَت اللامُ منه، والتقديرُ: واللهِ لقد افترينا، ذكره الزمخشري أيضاً. وجعله ابن عطية احتمالاً وأنشد:
2247ـ بَقَّيْتُ ما لي وانحرَفْتُ عن العُلَى   ولَقِيْتُ أضيافي بوجهِ عبوس
قال: " كما تقول " افتريْتُ على الله إن كلَّمت فلاناً " ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيتَ الذي بعد هذا وهو محلًُّ الفائدة لأنه مشتملٌ على الشرط وهو:
إنْ لم أَشُنَّ على ابنِ هندٍ غارةً   لم تَخْلُ يوماً من نهابِ نفوسِ
قوله: { بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا } منصوبٌ بـ " نعود " أي: ما يكون ولا يستقيمُ لنا عَوْدٌ بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها.

قوله: { إِلاَّ أَن يَشَآءَ } في هذا الاستثناء وجهان، أحدهما: أنه متصل. والثاني: أنه منقطعٌ. ثم القائلون بالاتصال مختلفون فمنهم مَنْ قال: هو مستثنى من الأوقات العامة والتقدير: وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقتٍ من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك، وهذا متصورٌ في حَقِّ مَنْ عدا شعيباً، فإن الأنبياءَ لا يشاء الله ذلك لهم لأنه عَصَمهم. ومنهم مَنْ قال: هو مستثنى من الأحوال العامة. والتقدير: ما يكونُ لنا أن نعودَ فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى. وقال ابن عطية: " ويُحتمل أن يريدَ استثناءَ ما يمكن أن يَتَعَبَّد الله به المؤمنين ممَّا تفعلُه الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم: إنَّا لا نعودُ في مِلَّتكم، ثم خشي أن يُتَعَبَّد الله بشيءٍ من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول: هذه عودةٌ إلى مِلَّتِنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يُتَعَبَّدَ به ".

قال الشيخ: " وهذا الاحتمالُ لا يَصِحُّ لأن قوله: " بعد إذ نجَّانا اللهُ منها " إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البِرِّ ". قلت: قد حكى ابن الأنباري هذا القولَ عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإِرادة ثم قال: " وهذا القول مُتَنَاوَلُهُ بعيد، لأنَّ فيه تبعيضَ الملة " وقيل: هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب.

السابقالتالي
2