الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ }

قوله تعالى: { بِكُلِّ صِرَاطٍ }: يجوز أن تكونَ الباءُ على حالها من الإِلصاقِ أو المصاحبةِ، أو تكونَ بمعنى في. و " تُوْعِدون " و " تَصُدُّون " و " تبغون " هذه الجملُ أحوالٌ أي: لا تقعدوا مُوْعِدين وصادِّين وباغين. ولم يذكر المُوْعَد به لتذهب النفسُ كلَّ مذهب. ومفعول " تصدُّون " " مَنْ آمن " ، قال أبو البقاء: " مَنْ آمن " مفعول " تصدُّون " لا مفعول " توعدون " إذ لو كان مفعولاً للأول لقال " تَصُدُّونهم ". يعني أنه لو كان كذلك لكانت المسألة من التنازع، وإذا كانت من التنازع وأَعْمَلْتَ الأول لأضمرْتَ في الثاني فكنت تقول: تَصُدُّونهم، لكنه ليس القرآن كذا، فدلَّ على أن " توعدون " ليس عاملاً فيه، وكلامُه يحتمل أن تكون المسألةُ من التنازع ـ ويكون ذلك على إعمال الثاني، وهو مختار البصريين وحَذَف من الأول ـ وألاَّ تكونَ وهو الظاهر.

وظاهرُ كلام ِالزمخشري أنها من التنازع، وأنه من إعمال الأول، فإنه قال: " فإن قلت: إلام يَرْجِعُ الضمير في " مَنْ آمن به "؟ قلت: إلى كل صراط، تقديره: تُوْعِدون مَنْ آمن به وتَصُدُّون عنه، فوضعَ الظاهر الذي هو " سبيل الله " موضعَ المضمر زيادةً في تقبيح أمرهم ".

قال الشيخ: " وهذا تعسُّف وتكلُّف مع عدم الاحتياج إلى تقديمٍ وتأخيرٍ ووضْعِ ظاهرٍ موضعَ مضمر، إذ الأصلُ خلافُ ذلك كلِّه، ولا ضرورةَ تدعو إليه، وأيضاً فإنَّه من إعمال الأول وهو مذهبٌ مرجوح، ولو كان من إعمالِ الأول لأضمر في الثاني وجوباً، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورةِ شعرٍ عند بعضِهم كقوله:
2245ـ بعكاظَ يُعْشي الناظِرِيْـ   نَ إذا هُمُ لَمَحُوا شعاعُه
فأعمل " يُعْشي " ورفع به " شعاعُه " وحَذَفَ الضمير مِنْ " لمحوا " تقديره: لمحوه. وأجازه بعضُهم بقلةٍ في غير الشعر. والضمير في " به ": إمَّا لكل صراط كما تقدَّم عن أبي القاسم، وإمَّا على الله للعلم به، وإمَّا على سبيل الله، وجاز ذلك لأنه يذكَّر ويؤنَّثُ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال " به " فذكَّر، وقال: " وتَبْغُونها عِوَجاً " فأنَّثَ، ومثلُه:قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ } [يوسف: 108]. وقد تقدم نحو قوله: " تَبْغونها عِوَجاً " في آل عمران فأغنى عن إعادته.

قوله: { وَٱذْكُرُوۤاْ }: إمَّا أن يكون مفعولُه محذوفاً، فيكونَ هذا الظرفُ معمولاً لذلك المفعولِ أي: اذكروا نعمتَه عليكم في ذلك الوقت، وإمَّا أن تجعلَ نفسَ الظرفِ مفعولاً به. قاله الزمخشري. وقال ابنُ عطية: " إن الهاء في " به " يجوز أن تعود على/ شعيب عند مَنْ رأى أن القعودَ على الطرقِ للردِّ عن شعيب " وهو بعيدٌ لأنَّ القائل " ولا تَقْعدوا " هو شعيب، وحينئذ كان التركيب " مَنْ آمن بي " والادِّعاءُ بأنه من بابِ الالتفات بعيدٌ جداً؛ إذ لا يَحْسُن أن يُقال: " يا هذا أنا أقول لك: لا تُهِنْ مَنْ أَكْرَمَه " أي: مَنْ أكرمني.

قوله: " كيف " وما في َحيِّزها معلِّقَةٌ للنظر عن العمل، فهي وما بعدها في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ. والنظرُ هنا التفكُّرُ، و " كيف " خبر كان، واجبُ التقديم.