الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى ٱلْكَافِرِينَ }

قوله تعالى: { أَنْ أَفِيضُواْ }: كأحوالِها من احتمال التفسير والمصدرية، و " من الماء " متعلق بأفيضوا على أحدِ وجهيه: إمَّا على حذف مفعول أي: شيئاً من الماء فهي تبعيضيةٌ، طلبوا منهم البعضَ اليسير، وإمَّا على تضمين " أفيضوا " معنى ما يتعدَّى بـ مِنْ أي: أنعموا منه بالفيض. وقوله: { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ } " أو " هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين: إمَّا تخييراً أو إباحةً أو غيرَ ذلك ممَّا يليق بها، وعلى هذا يقال كيف قيل: حَرَّ مهما فأعيد الضمير مثنَّى، وكان من حق مَنْ يقول إنها لأحد الشيئين أن يعودَ مفرداً على ما تقرر غير مرة؟ وقد أجابوا بأن المعنى: حَرَّم كلاً منهما. وقيل إن " أو " بمعنى الواو فعود الضمير واضحٌ عليه.

و " ممّا ": " ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية، وهو الظاهر، والعائد محذوف أي: أو من الذي رزقكموه الله، ويجوز أن تكونَ مصدريةً، وفيه مجازان: أحدهما: أنهم طَلَبوا منهم إفاضةَ نفس الرزق مبالغةً في ذلك. والثاني: أن يَرادَ بالمصدر اسمُ المفعول كقوله:كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ ٱللَّهِ } [البقرة: 60] في أحد وجهيه. وقال الزمخشري: " أو ممَّا رزقكم الله من غيره من الأشربة لدخوله في حكم الإِفاضة. ويجوز أن يُراد: أو أَلْقُوا علينا مِنْ ما رزقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله:
2205ـ عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً   ...............
قال الشيخ: " وقوله " و ألقوا علينا مما رزقكم الله من الطعام والفاكهة " يحتمل وجهين، أحدهما أن يكون قوله: " أفيضوا " ضُمِّن معنى " ألقوا " علينا من الماء أو مما رزقكم الله فيصحَّ العطف، ويحتمل ـ وهو الظاهر من كلامه ـ أن يكونَ أضمر فعلاً بعد " أو " يَصِل إلى مما رزقكم الله وهو " ألقوا " ، وهما مذهبان للنحاة فيما عُطِف على شيء بحرف عطف، والفعل لا يصل إليه، والصحيح منهما التضمين لا الإِضمار ". قلت: يعني الزمخشري أن الإِفاضة أصل استعمالها في الماء وما جرى مجراه في المائعات، فقوله " أو مِنْ غيره من الأشربة " تصحيح ليسلِّط الإِفاضةَ عليه؛ لأنه لو حُمِل مما رزقكم الله على الطعام والفاكهة لم يَحْسُن نسبة الإِفاضة إليهما إلا بتجوُّز، فذكر وجه التجوز بقوله " ألقوا " ، ثم فسَّره الشيخ بما ذكر، وهو كما قال، فإن العلَف لا يُسْنَدُ إلى الماء. فقوله إمَّا بالتضمين أي فَغَذَّيتُها، ومثلُه:
2206ـ...............   وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعيونا
وقوله:
2207ـ يا ليت زوجَك قد غدا   متقلِّدا سيفاً ورُمْحا
وقوله تعالى:وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } [الحشر: 9] وقد مضى من هذا جملةٌ صالحة. وزعم بعضهم أن قوله { أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } عامٌّ يندرج فيه الماء المتقدم، وهو بعيدٌ أو متعذَّرٌ للعطف بأو.

والتحريم هنا المَنْعُ كقوله:
2208ـ حرامٌ على عينيَّ أن تُطْعَما الكَرى   ................