الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَٰرُ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا ٱللَّهُ لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِٱلْحَقِّ وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }

وقوله تعالى: { مِّنْ غِلٍّ }: يجوز أن تكون " مِنْ " لبيان جنس " ما " ، ويجوز أن تكون حالاً فتتعلَّق بمحذوف أي: كائناً مِنْ غِل. وقوله: " تجري من تحتهم الأنهار " في هذه الجملة ثلاثة أوجه، أحدها: أنها حال من الضمير في " صدورهم " قاله أبو البقاء. وجَعَل العامل في هذه الحال معنى الإِضافة. والثاني: أنها حال، والعامل فيها " نزعنا " ، قاله الحوفي. والثالث: أنها استئناف إخبار عن صفة أحوالهم.

وردَّ الشيخ الوجهين الأوَّلين: أمَّا الثاني فلأنَّ { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ٱلأَنْهَارُ } ليس مِنْ صفة فاعل " نَزَعْنا " ولا مفعوله وهما " نا " و " ما " فكيف ينتصب حالاً عنهما؟ وهو واضح. وأمَّا الأولُ فلأنَّ معنى الإِضافة لا يعمل إلا إذا أمْكن تجريدُ المضاف وإعمالُه فيما بعده رفعاً أو نصباً. قلت: قد تقدم غيرَ مرة أن الحالَ تأتي من المضاف إليه إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه لمَدْرَكٍ آخر لا لِما ذكره أبو البقاء من أنَّ العامل هو معنى الإِضافة، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف وإن كانت الحالُ ليست منه؛ لأنهما لما كانا متضايفَيْنِ وكانا مع ذلك شيئاً واحداً ساغ ذلك.

والغِلُّ: الحِقْد والإِحْنَةُ والبغض، وكذلك الغُلول. وجمع الغِلّ غلال. والغُلول: الأَخْذُ في خُفْية، وأحسنُ ما قيل أن ذلك من لفظ الغِلالة كأنه تَدَرَّع ولبس الحقد والخيانة حتى صار إليه كالغِلالة الملبوسة.

قوله: { لَوْلاۤ أَنْ هَدَانَا } أَنْ وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ على ما قَدَّرْته غير مرة، وجواب " لولا " مدلول عليه بقوله: " وما كنا " تقديره: لولا هدايةٌ لنا موجودة لشَقِيْنا أو ما كنا مهتدين. و " لقد جاءت " جواب قسم مقدر. و " بالحق " يجوز أن تكون الباءُ للتعدية، فبالحق مفعولٌ معنى، ويجوز أن تكون للحال أي: جاؤوا ملتبسين بالحق.

قوله: { أَن تِلْكُمُ } يجوز أن تكون المفسِّرة، فَسَّرَت النداء ـ وهو الظاهر ـ بما بعدها. ويجوز أن تكون المخففةَ، واسمُها ضمير الأمر محذوفاً، وأن وما بعدها في محل نصب أو جر؛ لأنَّ الأصلَ: بأن تلكم، وأشير إليها بإشارة البعيد لأنهم وُعِدوها في الدنيا. وعبارة بعضهم " هي إشارة لغائبة " [فيها] مسامحة لأنَّ الإِشارة لا تكون إلا لحاضر، ولكن العلماء تُطْلق على البعيد غائباً مجازاً.

و " أُورِثتموها " يجوز أن تكون هذه الجملةُ حاليةً كقوله:فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [النمل: 52]، ويجوز أن تكونَ خبراً عن " تلكم " ويجوز أن تكون " الجنة " بدلاً أو عطف بيان، و " أُورثتموها " الخبر. ومنع أبو البقاء أن تكون حالاً من " تلكم " للفصل بالخبر، ولأن المبتدأ لا يعمل في الحال. وأدغم أبو عمرو والأخوان الثاء في التاء، وأظهرها الباقون.

و { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } تقدم غير مرة. والجماعة على " وما كنا " بواو وكذلك هي في مصاحف الأمصار غيرَ الشام. وفيها وجهان، أظهرهما: أنها واو الاستئناف، والجملة بعدها مستأنفة. والثاني: أنها حالية. وقرأ ابن عامر: " وما كنا " بدون واو، والجملة على ما تقدَّم من احتمالي الاستئناف والحال، وهي في مصحف الشاميين كذا/ فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه.