الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }

قوله تعالى: { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا }: في " كم " وجهان، أحدهما: أنها في موضعِ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ الجملةُ بعدها، و " من قرية " تمييز، والضمير في " أهلكناها " عائدٌ على معنى كم. وهي هنا خبرية للتكثير، والتقدير: وكثير من القرى أهلكناها. ونقل أبو البقاء عن بعضهم أنه جعل " أهلكناها " صفةً لقرية، والخبرُ قوله: " فجاءها بأسنا " قال: " وهو سهوٌ لأنَّ الفاء تمنعُ من ذلك ". قلت: ولو ادَّعى مُدَّعٍ زيادتَها على مذهب الأخفش لم تُقْبَلْ دعواه؛ لأن الأخفش إنما يزيدها عند الاحتياج إلى زيادتها.

والثاني: أنها في موضع نصبٍ على الاشتغال بإضمار فعل يفسِّره ما بعده، ويُقَدَّر الفعلُ متأخراً عن " كم "؛ لأن لها صدر الكلام، والتقدير: وكم من قريةٍ أهلكناها أهلكناها، وإنما كان لها صدرُ الكلام لوجهين أحدهما: مضارعتُها لـ " كم " الاستفهامية. والثاني: أنها نقيضةُ " رُبَّ " لأنها للتكثير و " رُبَّ " للتقليل، فحُمِل النقيضُ على نقيضه كما يحملون النظير على نظيره.

ولا بد من حَذْفِ مضافٍ في الكلام لقوله تعالى: " أو هم قائلون " فاضْطُرِرْنَا إلى تقدير محذوف، ثم منهم مَنْ قَدَّره قبل " قرية " أي: كم من أهل قرية، ومنهم مَنْ قدَّره قبل " ها " في " أهلكناها " أي: أهلكنا أهلَها، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن التقادير إنما تكون لأجل الحاجة، والحاجةُ لا تدعو إلى تقديرِ هذا المضاف في هذين الموضعين المذكورين، لأن إهلاكَ القرية يمكن أن يقع عليها نفسِها، فإن القرى تُهْلَكُ بالخَسْف والهدمِ والحريق والغَرَق ونحوه، وإنما يُحتاج إلى ذلك عند قوله " فجاءها " لأجل عَوْدِ الضمير من قوله: " هم قائلون " عليه، فيُقَدَّر: وكم من قرية أهلكناها فجاء أهلَها بأسُنا. قال الزمخشري: " فإن قلت: هل تُقَدِّرُ المضافَ الذي هو الأهل قبل " قرية " أو قبل الضمير في " أهلكناها "؟ قلت: إنما يُقَدَّر المضافُ للحاجة ولا حاجة، فإن القرية تَهْلَكُ كما يَهْلَك أهلُها، وإنما قدَّرناه قبل الضمير في " فجاءها " لقوله " أو هم قائلون ".

وظاهرُ الآيةِ أن مجيء البأس بعد الإِهلاك وعقيبِه؛ لأن الفاء تعطي ذلك، لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البأس، وبعده يقع الإِهلاك. فمن النحاة من قال: الفاء تأتي بمعنى الواو فلا تُرَتِّبُ، وجَعَلَ من ذلك هذه الآيةَ، وهو ضعيفٌ. و الجمهور أجابوا عن ذلك بوجهين، أحدهما: أنه على حَذْف الإِرادة أي: أردنا إهلاكها كقوله:إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [المائدة: 6]،فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ } [النحل: 98]، " إذا دخل أحدكم الخَلاءَ فَلْيُسَمِّ الله "

السابقالتالي
2 3 4