الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِٱلْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ }

قوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ }: فيه وجهان، أظهرهما: أنه معطوفٌ على الأمر المقدر أي: الذي ينحلُّ إليه المصدر وهو " بالقسط " ، وذلك أن القِسْط مصدرٌ فهو ينحلُّ لحرفٍ مصدري وفعل، فالتقدير: قل: أمر ربي بأن أقسِطوا وأقيموا، وكما أن المصدر ينحلُّ لـ " أَنْ " والفعل الماضي نحو: " عجبت من قيامِ زيد وخرج " أي: من أن قام وخرج، ولـ " أَنْ " والفعل المضارع كقولها:
2182ـ لَلُبْس عباءة وتَقَرَّ عيني   ............
أي: لأَنْ ألبس وتَقَرَّ، كذلك ينحلُّ لـ " أَنْ " وفعل أمر لأنها بالثلاث الصيغ: الماضي والمضارع والأمر بشرط التصرُّف. وقد تقدَّم لنا تحقيقُ هذه المسألةِ وإشكالِها وجوابِه، وهذا بخلاف " ما " فإنها لا تُوصل بالأمر، وبخلاف " كي " فإنها لا تُوْصَلُ إلا بالمضارع، فلذلك لا ينحلُّ المصدر إلى " ما " وفعل أمر، ولا إلى كي وفعلٍ ماضٍ أو مضارع. وقال الزمخشري: " وأقيموا وجوهكم: وقل أقيموا وجوهكم أي: اقصدوا عبادته ". وهذا من أبي القاسم يحتمل تأويلين، أحدهما: أن يكونَ قولُه " قل " أراد به أنه مقدَّرٌ غيرُ هذا الملفوظ به، فيكون " أقيموا " معمولاً لقولٍ أمرٍ مقدرٍ، وأن يكون معطوفاً على قوله " أَمَر ربي " فإنه معمول لـ " قل ". وإنما أظهر الزمخشري " قل " مع " أقيموا " لتحقيق عطفيَّته على " أَمَر ربي ". ويجوز أن يكونَ قولُه " وأقيموا " معطوفاً على أمرٍ محذوفٍ تقديرُه: قل أَقْبِلوا وأقيموا.

وقال الجرجاني صاحب " النظم ": " نَسَق الأمرَ على الجر، وجاز ذلك لأنَّ قوله { قُلْ أَمَرَ رَبِّي } قول؛ لأنَّ الأمر لا يكون إلا كلاماً والكلام قول، وكأنه قال: قل يقول ربي: " أقسطوا وأقيموا " يعني أنه عطف على المعنى.

و { مَسْجِدٍ } هنا يحتمل أن يكون مكاناً وزماناً. قال الزمخشري: " في وقت كل سجود وفي مكان كل سجود " وكان مِنْ حَقِّ مسجدِ مَسْجَد بفتح العين لضمها في المضارع، وله في هذا الشذوذ أخواتٌ كثيرةٌ مذكورةٌ في التصريف.

وقوله: { مُخْلِصِينَ } حال من فاعل " ادعُوه " ، و " الدّين " مفعول به باسم الفاعل. و " له " متعلِّقٌ بمخلصين، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من " الدين ".

قوله: { كَمَا بَدَأَكُمْ } الكافُ في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوف تقديره: تَعُودون عَوْداً مثلَ ما بدأكم. وقيل: تقديره يَخْرجون خروجاً مثل ما بدأكم ذكرهما مكي، والأول أليقُ بلفظِ الآيةِ الكريمة. وقال ابن الأنباري: " موضعُ الكاف في " كما " نصبٌ بتعودون؛ وهو على مذهبِ العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي: تعودون كما ابتدأ خلقكم ".

السابقالتالي
2