الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَآ أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا ٱلشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَآ إِنَّ ٱلشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌ مُّبِينٌ }

قوله تعالى: { فدلاهما بغرور }: الباء للحال أي: مصاحبين للغرور أو مصاحباً للغرور فهي حال: إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول. ويجوز أن تكون الباءُ سببيةً أي: دَلاَّهما بسبب أن غرَّهما. والغُرور مصدر حُذف فاعله ومفعوله، والتقدير: بغُروره إياهما. وقوله: " فدلاَّهما " يحتمل أن يكون من التَدْلية من معنى دلا دَلْوَه في البئر والمعنى أطمعهما. قال أبو جندب الهذلي:
2170ـ أَحُصُّ فلا أُجير ومَنْ أُجِرْه   فليس كمَنْ تَدَلَّى بالغرورِ
وأن تكون من الدالِّ والدالَّة وهي الجُرْأة أي: فجرَّأهما قال:
2171ـ أظن الحِلْمَ دَلَّ عليَّ قومي   وقد يُسْتَجْهَلُ الرجلُ الحليم
وعلى الثاني يكون الأصل دَلَّلهما، فاستثقل توالي ثلاثة أمثال فأبدل الثالثَ حرفَ لين، كقولهم: تظنَّيْتُ في تظنَّنْت وقَصَّيْت أظفاري في قَصَصْت وقال:
2172ـ تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازي كسرْ   
والذَّوْق: وجود الطعم بالفم ويعبر به عن الأكل. وقيل: الذوق مَسُّ الشيء باللسان أو بالفم يقال فيه: ذاق يذوق ذَوْقاً مثل: صام يصوم صوماً، ونام ينام نوماً.

قوله: { وَطَفِقَا } طَفِقَ من أفعالِ الشُّروع كأخذ وجعل وأنشأ وعَلِق وهَبَّ وانبرى، فهذه تدلُّ على التلبُّس بأول الفعل، وحكمُها حكمُ أفعالِ المقاربة من كونِ خبرها لا يكون إلا مضارعاً، ولا يجوزُ أن يقترنَ بأَنْ البتة لمنافاتها لها لأنها للشروع وهو حالٌ و " أَنْ " للاستقبال، وقد يقع الخبر جملةً اسمية كقوله:
3173ـ وقد جَعَلَتْ قَلوصُ بني سهيلٍ   من الأَكْوارِ مَرْتَعُها قريبُ
وشرطية كإذا كقول عمر: " فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يَخْرج أَرْسَلَ رسولاً " ويقال: طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها، وطَبِق بالباء الموحدة أيضاً. والألف اسمها و " يخصفان " خبرها.

والخَصْف الخَرْز في النِّعال، وهو وَضْعُ طريقة على أخرى وخَرْزُهما، والمِخْصَف: ما يُخْصَفُ به وهو الإِشْفى قال:
2174ـ........................   ............... أَنْفِها كالمِخْصَف
والخَصَفَةُ أيضاً الجُلَّة للتمر، والخَصَفُ: الثياب الغليظة، وخَصَفْتُ الخَصْفة نَسَجْتُها، والأَخْصَف والخصيف طعام يبرق، وأصله أن يُوضع لبنٌ ونحوه في الخَصْفة فيتلوَّن بلونها، وقال العباس يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
2175ـ...... طِبْتَ في الظلال وفي   مستودَعٍ حيث يُخْصَفُ الورقُ
يشير إلى الجنة أي حيث يخرز ويطابق بعضها فوق بعض.

قوله: { أَلَمْ أَنْهَكُمَا } يجوز أن تكون هذه الجملةُ التقريرية مفسرةً للنداء ولا محلَّ لها، ويُحتمل أن يكون ثَمَّ قولٌ محذوف وهي معمولةٌ له أي: فقال: ألم أنْهَكما، وذلك القولُ مفسِّر للنداء أيضاً. وقال الشيخ: " الأَوْلى أن يعود الضمير في " عليهما " على عورتيهما كأنه قيل: يَخْصِفان على سَوْءاتيهما، وعاد بضمير الاثنين لأن الجمعَ يُراد به اثنان، ولا يجوز أن يعود الضمير على آدم وحواء لأنه تقرَّر في علم العربية أنه لا يتعدَّى فعل الظاهر والمضمر المتصل إلى الضميرِ المتصلِ المنصوب لفظاً أو محلاً في غير باب ظن وفقد وعدم ووجد، لا يجوز: زيد ضربه ولا ضربه زيد، ولا زيد مرَّ به ولا مرَّ به زيد، فلو جَعَلْنا الضميرَ في " عليهما " عائداً على آدم وحواء لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي " يَخْصِفُ " إلى الضمير المنصوب محلاً وقد رفع الضمير المتصل وهو الألف في " يَخْصِفان " ، فإنْ أُخِذَ ذلك على حَذْف مضاف مرادٍ جاز ذلك وتقديره: " يَخْصِفان على بَدَنَيْهما " ، قلت: ومثلُ ذلك فيما ذكر

السابقالتالي
2