الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ سَآءَ مَثَلاً ٱلْقَوْمُ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ }

قوله تعالى: { سَآءَ مَثَلاً }: " ساء " بمعنى بئس، وفاعلها مضمر فيها و " مثلاً " تمييزٌ مفسِّر له، وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعه وتأنيثه عند البصريين. وتقدَّم أن " ساءَ " أصلُها التعدِّي لمفعولٍ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز/، والتمييز مفسِّر للفاعلِ فهو هو، فلزم أن يَصْدُقَ الفاعلُ والتمييز والمخصوصُ على شيءٍ واحد. إذا عُرِف هذا فقوله " القوم " غيرُ صادقٍ على التمييز والفاعل، فلا جَرَمَ أنه لا بد من تقدير محذوف: إمَّا من التمييز، وإمَّا من المخصوص، فالأولُ يقدَّر: ساء أصحاب مَثَل، أو أهل مثل القوم، والثاني يُقَدَّر: ساء مَثَلاً مثلُ القوم، ثم حُذِف المضاف في التقديرين وأقيم المضاف إليه مُقامه، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للتي قبلها.

وقرأ الحسن والأعمش وعيسى بن عمر: " ساء مثلُ القوم " برفع " مثل " مضافاً للقوم. والجحدري رُوِي عنه كذلك، وروي عنه كسرُ الميم وسكونُ الثاء ورفعُ اللام وجَرُّ القوم. وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون " ساء " للتعجب مبنية تقديراً على فَعُل بضم العين كقولهم: " لقَضُو الرجل " ، و " مثل القوم " فاعل بها، والتقدير: ما أسوأ مثلَ القوم، والموصولُ على هذا في محلِّ جرٍ نعتاً لقوم. والثاني: أنها بمعنى بئس، ومَثَلُ القوم فاعل، والموصولُ على هذا في محل رفعٍ لأنه المخصوصُ بالذمِّ، وعلى هذا فلا بد مِنْ حَذْف مضاف ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحد. والتقدير: ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين. وقَدَّر الشيخ تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظرٌ، إذ لا يحتاج إلى تمييز إذا كان الفاعلُ ظاهراً حتى جَعَلوا الجمع بينهما ضرورةً كقوله:
2340ـ تَزوَّدْ مثلَ زادِ أبيك فينا   فنعمَ الزَّادُ زادُ أبيك زادا
وفي المسألة ثلاثةُ مذاهب: الجوازُ مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتفصيل: فإن كان مغايراً للفظِ ومفيداً فائدةً جديدة جاز نحو: نعم الرجل شجاعاً زيد، وعليه قوله:
2341ـ تخيَّرَهُ فلم يَعْدِلْ سواه   فنِعْمَ المرءُ مِنْ رجلٍ تَهامي
قوله: { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } مفعول لـ " يظلمون " ، وفيه دليلٌ على تقديم خبر كان عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يُؤْذِنُ بتقديم العامل غالباً. وقلت " غالباً " لأن ثَمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحوفَأَمَّا ٱلْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ } [الضحى: 9] فاليتيم مفعول بـ " تقهر " ولا يجوز تقديم " تقهر " على جازِمِه، وهو محتملٌ للبحث.

وهذه الجملة الكونيةُ تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكونَ نسقاً على الصلة وهي " كَذَّبوا بآياتنا ". والثاني: أن تكون مستأنفة، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها، وقُدِّمَ المفعولُ ليفيدَ الاختصاص، وهذا على طريق الزمخشري وأنظاره.