الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ }

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ }: فيه وجهان، أظهرهما: أنه مبتدأ، وفي خبره حينئذ [أوجه]، أحدُهما: الجملة من قوله: " إنَّا لا نُضيع أَجْرَ المُصْلحين " وفي الرابط حينئذ أقوال، أحدها: أنه ضميرٌ محذوفٌ لفَهْم المعنى. والتقدير: المُصْلحين منهم، وهذا على قواعد جمهور البصريين وقواعد الكوفيين تقتضي أن أل قائمةٌ مَقام الضمير تقديره: أَجْر مصلحيهم كقوله:فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات: 41]، أي: مَأْواه، وقوله:مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ ٱلأَبْوَابُ } [ص: 50]، أي أبوابها، وقوله:فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ } [الروم: 3]، أي أرضهم، إلى غير ذلك. والثاني: أن الرابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه نحو: زيد قام أبو عبد الله وهو رأيُ الأخفش، وهذا كما يُجيزه في الموصول نحو: أبو سعيدٍ الذي رويتُ عن الخدريّ، والحجَّاج الذي رأيت ابنُ يوسف، وقد قدَّمْت من ذلك شواهد كثيرة. الثالث: أن الرابطَ هو العمومُ في " المُصْلحين " قاله أبو البقاء، قال: " وإن شِئْتَ قلت: لمَّا كان المصلحون جنياً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير ". قلت: العمومُ رابطٌ من الروابط الخمسة وعليه قولُه:
2329ـ ألا ليت شعري هَلْ إلى أمِّ سالمٍ   سبيلٌ فأمَّا الصبر عنها فلا صبرا
ومنه " نِعْم الرجل زيد " على أحدِ الأوجه.

والوجه الثاني من وجهَيْ الخبر أنه محذوف تقديره: والذين يمسكون مأجورون أو مُثابون ونحوه، وقوله: " إنَّا لا نضيع " جملةٌ اعتراضية، قاله الحوفي، ولا ضرورة إلى ادِّعاء مثلِه.

الثاني من وجهي " والذين يُمْسكون ": أنه في محل جر نسقاً على " للذين يتقون " ، أي: ولَدار الآخرة خيرٌ للمتقين وللمتمسكين، قاله الزمخشري، إلا أنه قال: " ويكون قوله " إنَّا لا نُضيع اعتراضاً ". وفيه نظرٌ لأنه لم يقعْ بين شيئين متلازمَيْن ولا بين/ شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويٌّ فكان ينبغي أن يقولَ: ويكون على هذا مستأنفاً.

وقرأ العامَّة: " يُمَسِّكون " بالتشديد مِنْ مَسَّك بمعنى تمسَّك، حكاه أهلُ التصريف، أي: إنَّ فَعَّل بمعنى تَفَعَّل، وعلى هذا فالباء للآلة كهي في: تمسَّكْتُ بالحبل. وقرأ أبو بكر عن عاصم ـ ورُوِيت عن أبي عمرو وأبي العالية: " يُمْسِكون " بسكون الميم وتخفيف السين مِنْ أَمْسَك، وهما لغتان يقال: مَسَكْت وأَمْسكت، وقد جمع كعب بن زهير بينهما في قوله:
2330ـ ولا تُمَسِّكُ بالعَهْدِ الذي زَعَمَتْ   إلا كما يُمْسِكُ الماءَ الغرابيلُ
ولكن أمسك متعدّ. قال تعالى:وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ } فعلى هذا مفعولُه محذوفٌ تقديرُه: " يُمْسِكون دينَهم وأعمالهم بالكتاب " ، فالباءُ يجوز أن تكونَ للحال وأن تكونَ للآلة، أي: مصاحبين للكتاب، أي لأوامره ونواهيه. وقرأ الأعمش وهي قراءة عبد الله " استمسكوا ". وأُبَيّ " تَمَسَّكوا " ماضيَيْن.