الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }

قوله تعالى: { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي }: في هذه الباء وجهان أحدهما: أن تكون قسميةً وهو الظاهر. والثاني: أن تكون سببيَّة، وبه بدأ الزمخشري قال: " فبما أغويتني: فبسبب إغوائك إياي لأقعدنَّ لهم " ثم قال: " والمعنى: فبسبب وقوعي في الغَيِّ لاجتهدنّ في إغوائهم حتى يَفْسُدوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم. فإن قلت: بم تَعَلَّقَت الباء فإن تعلُّقها بـ " لأقعدن " يصدُّ عنه لام القسم لا تقول: واللهِ بزيدٍ لأمرَّنَّ؟ قلت: تَعَلَّقَتْ بفعل القسم المحذوف تقديره: فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدنَّ أي: فبسبب إغوائك أُقْسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم أي: فأقسم بإغوائك لأقعدنَّ ". قلت: وهذان الوجهان سبق إليهما أبو بكر بن الأنباري، وذكر عبارةً قريبة من هذه العبارة.

وقال الشيخ: " وما ذكره من أن اللام تصدُّ عن تعلُّق الباء بـ " لأقعدَنَّ " ليس حكماً مُجْمَعاً عليه بل في ذلك خلافٌ ". قلت: أمَّا الخلافُ فنعم. لكنه خلافٌ ضعيف لا يُقَيَّد به أبو القاسم، والشيخُ نفسه قد قال عند قوله تعالى { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ } [الأعراف: 18] في قراءة مَنْ كسر اللام في " لمن " ، إنَّ ذلك لا يُجيزه الجمهور وسيأتي لك مبيناً إن شاء الله.

و " ما " تحتمل ثلاثة أوجه أظهرها: أنها مصدرية أي: فبإغوائك إياي. والثاني: أنها استفهامية يعني أنه استفهم عن السبب الذي أغواه به فقال: فبأي شيء من الأشياء أغويتني؟ ثم استأنف جملةَ أقْسَمَ فيها بقوله " لأقعدنَّ ". وهذا ضعيفٌ عند بعضِهم أو ضرورةٌ عند آخرين من حيث إنَّ " ما " الاستفهامية إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفها، ولا تَثْبت إلا في شذوذ كقولهم: عمَّا تسأل؟ أو ضرورةً كقوله:
2147ـ على ما قام يَشْتِمني لئيمٌ   كخنزيرٍ تمرَّغَ في رمادِ
والثالث: أنها شرطية، وهو قولُ ابن الأنباري، ولا بد من إيراد نصِّه قال: ـ رحمه الله ـ " ويجوز أن تكونَ " ما " بتأويل الشرط، والباءُ من صلة الإِغواء، والفاءُ المضمرة جواب الشّرط، والتقدير: فبأي شيء أغويتني فلأقعدنَّ لهم صراطك " فتُضْمر الفاءَ [في] جواب الشرط كما تضمرها في قولك " إلى ما أومأتَ إني قابلُه، وبما أمرت إني سامعٌ مطيع ". وهذا الذي قاله ضعيف جداً، فإنه على تقدير صحة معناه يمتنع من حيث الصناعة، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلا في ضرورة شعر كقوله:
2148ـ مَنْ يفعلِ الحسناتِ اللهُ يشكرُها   والشرُّ بالشر عند الله مِثْلان
أي: فالله. وكان المبرد/ لا يُجَوِّز ذلك ضرورة أيضاً، وينشد البيت المذكور:
مَنْ يفعل الخير فالرحمن يشكره   ..............
فعلى رأي أبي بكر يكون قوله " لأقعدنَّ " جوابَ قسم محذوف، وذلك القسم المقدر وجوابه جواب الشرط، فيقدِّرُ دخول الفاء على نفس جملة القسم مع جوابها تقديره: فبما أغويتني فواللهِ لأقعدنَّ.

السابقالتالي
2