الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَٰنَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيۤ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى ٱلأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ٱبْنَ أُمَّ إِنَّ ٱلْقَوْمَ ٱسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ ٱلأَعْدَآءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلظَّٰلِمِينَ }

قوله تعالى: { غَضْبَانَ أَسِفاً }: حالان من موسى عند مَنْ يجيز تعدُّدَ الحال، وعند مَنْ لا يجيزه يَجْعَلُ " أَسِفاً " حالاً من الضمير المستتر في " غضبان " فتكون حالاً متداخلةً، أو يجعلها بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ لعُسْر إدخالِه في أقسام البدل، وأقربُ ما يقال: إنه بدلُ بعضٍ من كل إن فسَّرنا الأسِفَ بالشديد الغضبِ، أو بدلُ اشتمال إن فسَّرناه بالحزين. يقال: أسِف يأسَفُ أَسَفاً، أي: اشتدَّ غضبُه. قال تعالى:فَلَمَّآ آسَفُونَا ٱنتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الزخرف: 55] ويقال: بل معناه حَزِن ومنه قوله:
2297ـ غيرُ مأسوفٍ على زمنٍ   ينقضي بالهمِّ والحزن
فلما كانا متقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليةُ على ما ذكرته لك، ويدلُّ على مقاربة ما بينهما ـ كما قال الواحدي ـ قولُه:
2298ـ...............   فحزنُ كلِّ أخي حُزْنٍ أخو الغضبِ
وقال الأعشى:
2299ـ أرى رجلاً منكمْ أسِيفاً كأنما   يَضُمُّ إلى كَشْحَيْه كَفَّاً مُخَضَّبا
فهذا بمعنى غضبان. وفي الحديث: " إنَّ أبا بكر رجلٌ أسيف " أي: حزين، ورجلٌ أَسِف: إذا قُصِد ثبوتُ الوصف واستقراره، فإن قُصِد به الزمان جاء على فاعِل.

قوله: { قَالَ: بِئْسَمَا } هذا جوابُ " لمَّا " وتقدَّم الكلامُ على " بئسما " ، ولكنَّ المخصوصَ بالذم محذوفٌ، والفاعلُ مستتر يفسِّره " ما خَلَفْتموني " والتقدير: بئس خلافةً خَلَفْتمونيها خلافتُكم.

قوله: { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } في " أَمْرَ " وجهان أحدهما: أنه منصوب على المفعول بعد إسقاط الخافض وتضمين الفعل معنى ما يتعدى بنفسه، والأصل: أَعَجِلْتُمْ عن أمر ربكم. قال الزمخشري: " يقال: عَجِل عن الأمر: إذا تركه غير تامَّ، ونقيضه تَمَّ، وأعجله عنه غيره، ويُضَمَّن معنى سبق فيتعدَّى تعديتَه فيقال: عَجِلْتُ الأمر، والمعنى: أعجلتم عن أمر ربكم ". والثاني: أنه متعدٍّ بنفسه غيرَ مضمَّنٍ معنى فعل آخر. حكى يعقوب " عَجِلْتُ الشيء سبقته " وأعجلت الرجل استعجلته، أي: حملتُه على العَجَلة ".

قوله: { يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: أن الجملةَ حالٌ من ضمير موسى المستتر في " أخذ " ، أي: أخذ جارَّاً إليه. الثاني: أنها حال من " رأس " قاله أبو البقاء وفيه نظرٌ لعدم الرابط. الثالث: أنها حال من " أخيه " قال أبو البقاء: " وهو ضعيفٌ يعني من حيث/ إن الحال من المضاف إليه يَقِلُّ مجيئُها أو يمتنعُ عند بعضهم. قلت: وقد تقدم غيرَ مرة أن بعضَهم يُجَوّزه في صورٍ هذه منها، وهو كونُ المضافُ جزءاً من المضاف إليه.

قوله: { قَالَ ٱبْنَ أُمَّ } قرأ الأخَوان وأبو بكر وابن عامر هنا وفي طه بكسر الميم والباقون بفتحها. فأمَّا قراءة الفتح ففيها مذهبان: مذهبُ البصريين أنهما بُنيا على الفتح لتركُّبهما تركيب خمسة عشر، فعلى هذا فليس " ابن " مضافاً لـ " أم " بل مركَّب معها فحركتُهما حركةُ بناء.

السابقالتالي
2 3